«داعش» دولة مزيّفة تسعى إلى قلب النظام الدولي

31-03-2015 04:33 AM - عدد القراءات : 197
كتب أودري كورث كرونين
إثر هجمات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، نظر عدد كبير من العاملين في مؤسسات الأمن القومي الأميركي بعين القلق الى عدم استعداد بلادهم لجبه عدو غير تقليدي مثل «القاعدة».
«داعش» دولة مزيّفة تسعى إلى قلب النظام الدولي

إثر هجمات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، نظر عدد كبير من العاملين في مؤسسات الأمن القومي الأميركي بعين القلق الى عدم استعداد بلادهم لجبه عدو غير تقليدي مثل «القاعدة». لذا، انصرفت الولايات المتحدة في العقد الذي تلى الهجمات، الى ارساء بنى بيروقراطية لقتال المنظمة الجهادية، وتكييف وكالاتها العسكرية والاستخباراتية وهيئاتها القانونية مع ما تقتضيه مكافحة الإرهاب والتمرد. ولكن، تربع تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) اليوم، محل «القاعدة كمصدر ابرز خطر جهادي. وعلى رغم أوجه الشبه بين ايديولوجيا وخطاب «داعش» وبين عقيدة «القاعدة» وأهدافها على الأمد الطويل، افترض مراقبون كثر ان التحدي الطارئ لا يقتضي غير توجيه الجهاز الأميركي لمكافحة الإرهاب الى هذا الهدف الجديد. لكن «داعش» ليس «القاعدة»، وليس جزءاً منها أو مرحلة من مراحل تطورها. وعلى رغم ان «القاعدة» لا تزال مصدر خطر، في شمال افريقيا واليمن تحديداً، «داعش» هو اليوم الخطر الجهادي ما بعد مرحلة «القاعدة».

في خطاب تلفزيوني في ايلول المنصرم، اعلن الرئيس الأميركي، باراك اوباما، ان «داعش» تنظيم ارهابي. والتعريف هذا غير مصيب، فعلى رغم توسل «داعش» الإرهاب لبلوغ أهدافه، فهو ليس تنظيماً إرهابياً. فعدد مقاتليه يبلغ حوالى 30 ألفاً، ويبسط نفوذه في مناطق واسعة من العراق وسورية، وقدراته العسكرية كبيرة. وهو يمسك بمقاليد وسائل اتصال وبنى تحتية ويشن عمليات عسكرية دقيقة وله مصادر تمويل ذاتي. ونهج مكافحة الإرهاب والتمرد لن يجدي في تقويض خطره.

ولا شك في ان تكيف سياسات واشنطن مع طبيعة خطر «داعش» في سورية والعراق، بطيء. وفي سورية، تصدرت اولويات نهج مكافحة الإرهاب قصف شركاء «القاعدة». فتعززت قبضة «داعش» ووسع نظام الأسد الانقضاض على حلفاء اميركا من المعارضة المعتدلة. وفي العراق، تنتهج واشنطن ضرباً من مكافحة التمرد وتعوّل على استعادة الحكومة المركزية في بغداد مشروعيتها وتوحيدها البلد المنقسم، وبناء قوات محلية لهزيمة «داعش». لكن نهج مكافحة التمرد ومكافحة الإرهاب ابصر النور لمكافحة خطر مختلف. واليوم تبرز الحاجة الى استراتيجية «احتواء هجومي» قوامها الجمع بين تكتيكات عسكرية وإستراتيجية ديبلوماسية واسعة لوقف توسع «داعش» وعزله وتقويض قدراته.

التباين بين «القاعدة» و»داعش» يعود الى تاريخهما. فالأول ابصر النور إثر اجتياح السوفيات افغانستان في 1979. وخلفت الحرب ضد الاحتلال السوفياتي بصمتها في رؤية قادته واستراتيجيتهم. ومع تقاطر آلاف المقاتلين المسلمين الى افغانستان، جلى «القاعدة» على صورة شبكة عالمية تشن هجمات ضخمة على أهداف غربية وعلى حلفاء الغرب. والثاني ولد إثر الاجتياح الأميركي للعراق في 2003. وفي بداياته، ائتلف من مجموعة متطرفين سنّة يقاتلون القوات الأميركية ويهاجمون مدنيين شيعة ويسعون الى اشعال فتيل حرب طائفية. ويومها، عرف بـ «القاعدة في العراق»، وأعلن قائده، ابو مصعب الزرقاوي، الولاء لبن لادن. لكن الزرقاوي قتل في ضربات اميركية عام 2006. وبدا ان «القاعدة في العراق» هزم شر هزيمة، على وقع تحالف قبائل سنية مع الأميركيين في مواجهة الجهاديين. لكن هزيمته كانت موقتة. فـ «القاعدة في العراق» انبعث في سجون أميركية هناك، حيث اجتمع ارهابيون ومتمردون وشكلوا شبكات، حيث برز ابو بكر البغدادي. وإثر اندلاع الثورة ضد نظام بشار الأسد وانزلاقها الى حرب اهلية، وجدت المجموعة في الفوضى فرصة للسيطرة على شطر من شمال شرقي سورية، وأنشأت قاعدة عمليات هناك، وغيّرت اسمها الى «داعش». وفي العراق، استغلت مجموعة «الدواعش» الفراغ الناجم عن ضعف الحكومة المركزية ونفخت في النزاع الطائفي الذي تجدد اثر انسحاب القوات الأميركية وانتهاج رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، سياسة شيعية متطرفة اقصت العرب السنّة.

واليوم يجمع «داعش» مقاتلين من اطياف مختلفة: زعماء قبائل سنية، ومقاتلين سابقين ضد القوات الأميركية وضباطاً عراقيين سابقين علمانيين. وإثر سيطرة «داعش» على الفلوجة والرمادي في كانون الثاني (يناير) 2014، وتوجهه نحو بغداد في حزيران (يونيو) المنصرم وسيطرته على الموصل وتكريت والقائم وعدد من البلدات العراقية، على وقع فرار الجيش العراقي من مراكزه، غيّر «داعش» اسمه الى «الدولة الإسلامية»، واستقطب 15 الف مقاتل اجنبي من 80 دولة. وعلى رغم ان شطراً راجحاً منهم من دول اسلامية، استقطب التنظيم مقاتلين من روسيا ودول غرب اوروبا ومراهقين اميركيين، من اناث وذكور الطبقات الوسطى في دنفر ومينيابوليس وضواحي شيكاغو.

وعلى خلاف «القاعدة» يرمي تنظيم «داعش» الى بسط سيادته وإنشاء دولة اسلامية سنّية وتقويض الحدود السياسية في الشرق الأوسط الموروثة من القرن العشرين، وهو نصّب نفسه مرجعاً للسلطة السياسية والدينية والعسكرية في العالم الإسلامي. لذا، حري بواشنطن تعديل استراتيجية مكافحة الإرهاب التي صيغت لمحاربة «القاعدة» وليس لقتال «داعش». وهذه دولة كاذبة، ولن تساهم ضربات «الدرون» والغارات الأميركية في تقويض التنظيم الذي أرسى شبه دولة تتمتع ببنى ادارية مركبة ومعقدة على رأسها البغدادي ونائباه، أبو علي الأنباري وأبو مسلم التركماني، وهما ضابطان سابقان في الجيش العراقي في عهد صدام. ويوجه دفة البيروقراطية المدنية «الداعشية» 12 مديراً أو والياً يحكمون مناطق في العراق وسورية، ويتولون مجالس تعالج شؤون المالية والإعلام والشؤون الدينية.

ولا شك في ان «داعش» تحدٍّ لا يستهان به. وتكتيكات مكافحة الإرهاب التقليدية تستهدف تمويل الإرهاب والبروباغندا والتجنيد. وكان النجاح في قطع موارد «القاعدة» المالية من أبرز نجاحات نهج مكافحة الإرهاب. فإثر هجمات ايلول (سبتمبر)، بدأ التعاون بين جهازَي «أف بي آي» و»سي آي أي» في الشؤون الاستخباراتية المالية، وانضمت اليهما وزارة الدفاع الأميركية في هذا التعاون. وفي 2004، افتتحت الخزانة الأميركية مكتب مكافحة الإرهاب والاستخبارات المالية الذي قلص قدرة «القاعدة» على الكسب من عمليات تبييض الأموال وحيازة تمويل من طريق اعمال خيرية مقنّعة. وبرزت شبكة عالمية لمكافحة تمويل الإرهاب تدعمها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومئات من الحكومات، لكن تنظيم «داعش» مستقل مالياً. فهو يمسك بأراضٍ، وأرسى نموذجاً مالياً للتمويل الذاتي. ففي مطلع 2012، بدأ يسيطر على آبار النفط في شرق سورية، واليوم يمسك بمقاليد 60 في المئة من قدرات سورية الإنتاجية النفطية.

وفي العراق، صادر «داعش» 7 مراكز لاستخراج النفط، وهو يبيع شطراً منه في السوق السوداء في سورية والعراق. ومن زبائنه نظام الأسد، وفق بعض التقارير. وهو يهرّب النفط الى الأردن وتركيا. وعائدات النفط «الداعشي» تقدر بمليون الى ثلاثة ملايين دولار يومياً. وحين سيطر التنظيم على الموصل، استولى على أموال فرع المصرف المركزي وغيره من المصارف الصغيرة وسرق قطعاً أثرية ليبيعها في السوق السوداء.

كما يصادر سيارات ومجوهرات وسلاحاً وماشية السكان الذين يجتاح أرضهم. ويسيطر «داعش» على شرايين نقل بارزة في غرب العراق، ويفرض ضرائب على حركة نقل السلع وعبور المركبات. ويجني عائدات من زراعة القطن والقمح في الرقة، ويخطف رهائن ويطالب بعشرات الملايين من الدولارات لإطلاقها.

يسعى «داعش» الى الانتقام وليس الى كسب مشروعية في اوساط المسلمين. ويرمي عنفه وصور اعداماته الجماعية الى زرع الخوف في نفوس الأعداء، وكمّ اصوات المعارضين. ويستقطب «داعش» الشباب الذين يسعون إلى المغامرة والنفوذ الشخصي والشعور بالانتساب الى جماعة. وما يدفع بعضهم الى الالتحاق بالتنظيم هو الرغبة في القتل، و «داعش» يرحّب بهم. وهذا التنظيم الناشط في بيئات مدينية يمنح الملتحقين به فرصة فورية للقتال، ويؤمن لهم شريكات بعضهن يتطوعن لأداء هذا الدور، وبعضهن الآخر يغصبن عليهن بعد استرقاقهن.

ليس أمام الولايات المتحدة خيارات عسكرية يعتدُّ بها في الحرب على «داعش»، ولن تحمل مكافحة الإرهاب أو مكافحة التمرد أو الحرب التقليدية النصر على التنظيم. والاحتواء الدفاعي هو الأمثل، ويقتضي الجمع بين حملة عسكرية محدودة وبين مساع ديبلوماسية واقتصادية ضخمة لإضعاف «داعش» ورص صفوف دول كثيرة يهددها تقدم هذا التنظيم.

و»داعش» ليس مشكلة أميركية فحسب، وليست الحرب في العراق وسورية حكراً على قوى إقليمية. فثمة لاعبون بارزون ضالعون فيها، منهم روسيا وتركيا وإيران ودول خليجية. و «داعش» ليس من تحديات مكافحة الإرهاب، كما أوحت قمة مكافحة الإرهاب في واشنطن. فهذا التنظيم يسعى الى تغيير النظام الدولي، ويكاد أن يبلغ مأربه.

وحري بالدول العظمى البارزة الاتفاق على مقاربة ديبلوماسية واقتصادية وعسكرية لاحتواء هذه الدولة الكاذبة وإقصائها ونبذها. لذلك، حريّ بواشنطن المبادرة الى مشروع ديبلوماسي مع ابرز القوى الدولية والإقليمية (ايران والسعودية وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وروسيا والصين والدول المجاورة للعراق وسورية) من اجل صوغ رد موحد على خطر «داعش».

 

 

?* مديرة برنامج الأمن الدولي في جامعة جورج مايسون، عن «فورين أفيرز» الأميركية، 3-4/2015، إعداد منال نحاس




© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>