المعلومات والمعرفة والذكاء

27-10-2015 05:47 AM - عدد القراءات : 20066
كتب أليستر ماكفيرلين ترجمة سارة عادل
يستعرض أليستر ماكفيرلين الاختلافات بين هذه المفاهيم الجوهرية: المعلومات والمعرفة والذكاء، إلى جانب تداعياتها على الطريقة التي نفكر بها في أجهزة الكمبيوتر.
 المعلومات والمعرفة والذكاء

أي شخص يقرأ هذا المقال سيكون قد تعامل من قبل مع جهاز كمبيوتر. مثل هذه التعاملات لا يمكن أن تسمى محادثات؛ فالمرء لا يتحدث مع أجهزة الكمبيوتر الحالية بأكثر مما يتحدث جندي في استعراض عسكري مع رقيب التدريب العسكري. ومع ذلك، عند التعامل مع الإنترنت باستخدام الكمبيوتر الشخصي كوسيطٍ تكون الأمور أفضل إلى حدٍّ ما. فالبحث عن كتاب والاطلاع على محتوياته على الإنترنت ثم طلَب شرائه يمكن أن يكون شكلًا من التفاعل أكثر إرضاءً إلى حد كبير. ومع ذلك، فأنت لا تتوهم مطلقًا بأنك تتعامل مع شخص بشري مثلك؛ فأنت لا تسأل الإنترنت أسئلة من قبيل: «كيف يبدو الطقس في الخارج؟» أو «هل قرأت هذا الكتاب بنفسك؟» إن الآلات إلكترونية التحكم بإمكانها تنفيذ مجموعة ضخمة من المهام التي تحتاج إلى مهارة بالغة بداية من قيادة طائرة والهبوط بها، وحتى تصنيع مجموعة كبيرة متنوعة من المنتجات وتجميعها، فما هو مدى إمكانية أن يواجه أحدنا — خلال بضعة عقود — صعوبة كبيرة في معرفة ما إذا كان يتحدث إلى جهاز كمبيوتر أم لا؟ وإذا لم يستطع جهاز الكمبيوتر في النهاية أن يتجنب كل محاولاتك لدفعه إلى الانخراط معك في محادثة شائقة (كأن يقول لك شيئًا من قبيل: «آسف، لكني مشغول جدًّا فلا أستطيع الحديث معك في الوقت الحالي، هل كنت تريد شيئًا؟») وكان بإمكانه الإجابة فعليًّا عن أي سؤال في ضروب المعرفة العامة، وتقديم الإرشاد المفصل في كافة مجالات الأدب والعلوم، وإجراء عمليات حسابية متقدمة جدًّا، ولعب البوكر بمهارة، فهل ينبغي أن تصفه بالذكاء؟ فهو على الرغم من كل شيء يعلم ما عواصم بلاد العالم كلها، وتعداد سكانها، والصادرات الرئيسة لها، أما أنت فلا. وعلاوة على ذلك، هل ثمة آثار خطيرة على المجتمع إذا ما استطاعت أجهزة الكمبيوتر المتصلة بالآلات وأنظمة الاتصال إدارة السكك الحديدية، وقيادة الطائرات، وإدارة المرور، وصناعة كل السيارات والمنتجات الأخرى، والعمل كمستودع ضخم للمعرفة الحقيقية، وأداء أي نشاط آخر تقريبًا يتطلب مهارة كبيرة؟ ليست هذه مجرد أسئلة فلسفية مثيرة للاهتمام، إذا ما وصلت الآلات إلى المستويات الضرورية من المعرفة والمهارة؛ فإن اندماجها في المجتمع يمكن أن يتسبب في مشكلات خطيرة للغاية.

للإجابة عن هذه الأسئلة، نحتاج إلى تعريف دقيق لثلاثة مفاهيم أساسية: المعلومات والمعرفة والذكاء، واستكشاف العلاقات التي تربط بعضها ببعض. وكطريق جيد للبدء في التمييز بينها؛ علينا ملاحظة الكيفية التي تعكس بها هذه المفاهيم علاقتنا بالحاضر والماضي والمستقبل. المعلومات وصفية؛ إذ إنها تخبرنا بالكيفية التي عليها العالم الآن، في حين أن المعرفة توجيهية؛ حيث إنها تخبرنا بما علينا القيام به على أساس الخبرات التراكمية السابقة. أما الذكاء فهو عامل الفصل؛ نظرًا لأنه يُوجِّه ويتوقَّع وينصح، مخبرًا إيانا بما يمكن القيام به في الظروف التي لم يسبق مواجهتها، وما النتائج التي يُرجح الحصول عليها.

المعلومات

إن المعلومات هي نمط ذو معنًى يمكن مشاركته. لقد تطورنا كنوع بيولوجي بحيث نستطيع إدراك المعاني ونسْبتها إلى الأنماط، وتعلمنا فعل ذلك كأفراد. والنص الذي تقرؤه الآن خير مثال على ذلك؛ فهذا النمط اللغوي يُميَّز ماديًّا، ويُستوعب عقليًّا، ويمكن مشاركته اجتماعيًّا. وتربط التكنولوجيا الطبية بانتظام بين صور نشاط الدماغ والعمليات العقلية، موضحةً كيف أن البنى العقلية لدينا تقوم على الأنماط المادية في أدمغتنا. فعلى مدار فترة زمنية طويلة، أمدنا التطور بمجموعة من العمليات البدنية المترابطة التي يمكننا من خلالها تحويل هذه الأنماط الدماغية الحاملة للمعلومات إلى أنماط أخرى مادية؛ مثل الموجات الصوتية، والإشارات، ومن ثم يمكننا التواصل، وبالتالي مشاركة معلوماتنا.

وبما أن الأنماط الحاملة للمعلومات لها تجسيد مادي؛ فإن بإمكاننا قياس كميات المعلومات. فكافة الأنماط؛ مثل: الصور على جهاز الكمبيوتر، أو شاشة الهاتف، يمكن أن تُبنى من لبنات أساسية، وكل لبنة أساسية تقدم بتًّا واحدًا من المعلومات (البت: هو وحدة القياس الأساسية للمعلومات). ثمة نظرية كمية راسخة للمعلومات المادية تقوم عليها تكنولوجيا المعلومات، لكن هذه النظرية تتجاهل تمامًا الجوانب الدلالية (المتعلقة بالمعنى) والاجتماعية للمعلومات. فالعلوم والتكنولوجيا لا يتعاملان سوى مع الجزء المادي. ومن أجل معالجة فلسفية مرضية، يجب أن تعالج المعلومات على أنها مفهوم ثلاثي العناصر؛ إذ ينبغي علينا أن نتعامل مع جوانبها العقلية والاجتماعية والمادية. وعلى الرغم من هذا، فقد أُجرِيَت بعض المحاولات غير المدروسة جيدًا لتشكيل نظريات فلسفية لا تقوم سوى على الوصف المادي للمعلومات.

المعرفة

وفقًا لأفلاطون، المعرفة هي «المعتقدات الصادقة المبررة.» وقد كانت هذه أيضًا رؤية العديد من الفلاسفة حتى وقت متأخر، لكن في ضوء نظرية الأحياء والتطور الحديثة، أصبحنا نعلم أن هذا ليس سوى جزء من المسألة. إننا جميعًا نولد بمعرفة فطرية، لكننا لم نولد بمعتقدات فطرية؛ فالطفل حديث الولادة يعرف كيف يتنفس ويرضع، لكن ليست لديه أية معتقدات دينية أو غيرها.

إن المعرفة مخزن للمعلومات التي ثبتت أهميتها من أجل القدرة على التصرف. ثمة جزء فطري من المعرفة، لكن الجانب الأعظم منها يُكتَسَب من خلال التفاعل مع العالم. بالنسبة لأبسط أنواع الفواعل؛ مثل: الحشرات والروبوتات، فإن كل معرفتها مضمنة في بنيتها. فالآلات الجزيئية الضخمة مثل الريبوسومات في خلايانا «تعرف» كيف تصنع البروتينات؛ لأن أشكالها المعقدة قد تطورت بحيث تمتلك هذه القدرة، وجهاز المزدوجة الحرارية «يعرف» درجة الحرارة التي ينغلق عندها المفتاح؛ لأن مُصمِّمه صنعه بهذه الطريقة بحيث ينغلق المفتاح عند وصول الحرارة إلى درجة معينة.

لا يُمكِّنُنا مخزن المعرفة الذي ولدنا به من معالجة كافة المشكلات التي تواجهنا في العالم، لكن بينما نتفاعل مع العالم والمجتمع علينا أن نكتسب معرفة جديدة من خلال التعلم؛ فينشأ عن ذلك تلك الأفكار المُرَشَّحة للتحول إلى معرفة، والتي نطلق عليها معتقدات. فتصرفاتنا ناتجة عن كل من المعرفة والمعتقدات. وفي اللغة الاصطلاحية لفلسفة العقل، تعرف المعتقدات بأنها حالات عقلية إرادية، بمعنى أنها تتمحور حول العالم؛ فالمعتقد يخبرنا بالكيفية التي ربما يكون عليها العالم، أما المعرفة فهي تخبرنا بالكيفية التي عليها العالم بالفعل، والمعرفة المكتسبة تستخلص من المعتقدات. تتميز المعرفة الصريحة عن المعتقد من ناحية تماسكها وثباتها، وجدارتها بالثقة وفعاليتها؛ حيث إن المعرفة تتحقق عبر خبرات تراكمية ومكررة، مما يضمن أن تصرفاتنا تتسق مع ما نَخبره؛ لذا فإن الخبرة المستدامة القائمة على التفاعلات المتكررة مع العالم هي وحدها القادرة على تبرير ترقية المعتقد إلى مستوى المعرفة. لكن وراء القشرة الخارجية للتعلم والتجربة نحن مخلوقات معقدة، انفعالية، غير عقلانية، نناقش باستمرار للتوصل إلى حلول وسط بين المعتقدات والمعرفة.

إن القدرة على تشكيل المعتقدات واختبارها عمليًّا أمر ضروري لبقائنا في عالم دائم التغير. وقد كان تطور هذه القدرة خطوة محورية في تطورنا؛ فمرونة الفعل الإرادي وقوته لهما مزية كبيرة على النشاط الفطري ثابت النمط، والذي يتبين لنا في الغرائز؛ إذ يتيح الفعل الإرادي تناول الخيارات المتاحة ودراستها قبل اتخاذ القرار الأخير بالعمل.

إن المعرفة الصريحة المعتمدة على اللغة هي وحدها التي يمكن أن تُنقَل بسهولة عبر الكتب والآلات، لكنَّ جانبًا كبيرًا من المعرفة التي نملكها مفهوم ضمنًا؛ فلا يمكن التعبير عنها لغويًّا. وقد عبر ميهايل بولاني عن ذلك تعبيرًا جديرًا بالذكر قائلًا: «إن ما نعرفه يفوق قدرتنا على التعبير.» وهذا صحيح، ليس فقط فيما يتعلق بالمعرفة الفطرية، وإنما فيما يتعلق بتلك المهارات المُستوعَبة التي تتأتى من مراقبة الآخرين ومحاكاتهم. علاوة على ذلك، من الصعب الوصول إلى معرفتنا الخاصة حين نريد، بل ربما يتطلب الأمر تفاعلًا جماعيًّا (كالعصف ذهني) من أجل بزوغ هذه المعرفة. ستظل عملية الوصول إلى المعرفة البشرية وإقرارها صعبة.

إن كلًّا من المعتقد والمعرفة ظاهرتان عقليتان من المعروف استعصاؤهما على التفسير المادي البسيط. علاوة على ذلك، لم تحظَ المحاولات المبذولة لتفسير محتويات الوعي — مثل المعتقدات — بلغة مادية بحتة إلا بنجاح محدود. وتنبثق هذه الصعوبة من طبيعتيهما غير المادية؛ فمن الممكن ربطهما بالأحداث المادية، لكن الربط لا يعني التفسير. ومع ذلك، يعد الوصف هدفًا أكثر تواضعًا إلى حدٍّ كبير من التفسير. إن تقديم وصف مفصل للكيفية التي تتأصل بها خبرتنا في تفاعلاتنا الجسدية والعقلية والاجتماعية هو من ثمَّ قراءة فلسفية أو طريقة للنظر إلى العالم، وليس نظرية علمية.

الذكاء

على عكس المعتقد والمعرفة، الذكاء ليس معلومة، وإنما عملية أو قدرة فطرية على استخدام المعلومات من أجل الاستجابة للمتطلبات دائمة التغير. إنه قدرة على اكتساب المعلومات، وتنقيحها، وتعديلها، والإضافة لها، واستخدامها من أجل حل المشكلات. ومن ثم، الذكاء هو القدرة على مواكبة الظروف غير المتوقعة. لكن الذكاء ليس تحليليًّا فحسب، فلكي نبقى ونزدهر في المجتمع؛ علينا أن نتمتع بالذكاء الاجتماعي والعاطفي أيضًا (ومع ذلك، فإنني لا أفترض هنا المساواة بين الذكاء والوعي).

يتضمن الذكاء القدرة على التأقلم والتعلم التي تراكمت على مدار تطور نوعنا البيولوجي. ومع ذلك، فإن الذكاء هو سمة نكتسبها بمقتضى إرثنا الجيني الشخصي. وبالاجتهاد في الممارسة، بإمكاننا أن نصبح أكثر مهارة، وبالدراسة الجادة والملاحظة الدقيقة، بإمكاننا أن نصبح أوسع اطِّلاعًا، لكن ليس من سبيل لأن نصبح أكثر ذكاءً بدرجة ملحوظة على المستوى الشخصي؛ إذ ليس باستطاعتك مضاعفة ذكائك الطبيعي بقدر ما لا تستطيع مضاعفة طولك الطبيعي.

نحن والذكاء الاصطناعي

«الذكاء الاصطناعي» هو مصطلح مُضلِّل يطلق على تكنولوجيا إعطاء سمة الفاعلية (القدرة على التصرف باستقلالية في العالم) للآلات. وفي وضعنا المعرفي التكنولوجي والعلمي الحالي، قد يكون مصطلح «المعرفة الاصطناعية» أفضل كثيرًا، بالرغم من أنه لا يتمتع بنفس الوقع على الأذن. لقد أدت التطورات الحديثة في تكنولوجيا البحث عن المعلومات الحقيقية الموسومة دلاليًّا واسترجاعها — كما في الأنظمة التي تستخدمها محركات بحث جوجل — إلى تطورات مدهشة في سرعة البحث على الإنترنت وملاءمتها (المستخدمون البشريون هم من يقدمون الوسم الدلالي: كلما زادت مرات استخدام المستخدمين لكلمات بحث معينة زاد الترجيح الذي تعطيه إجراءات البحث لهذه الكلمات). بمقتضى هذه التقنيات، من الممكن أن تتيح تكنولوجيا المعلومات الوصول إلى مستودع هائل فعليًّا من المعرفة.

وهذه المقدرة على الحصول على المعرفة لا تنطبق على الحقائق فحسب، ولكنها تنطبق على أية عملية أخرى يمكن أن توصف بدقة ووضوح باللغات المستخدمة في برمجة أجهزة الكمبيوتر. ومن ثَمَّ، فإنه من الناحية المبدئية ومن الناحية العملية — بدرجة متزايدة — يمكن جعل الآلات ماهرة في المهام الميكانيكية إلى أي مستوًى يمكن أن يدركه البشر، بل وإلى مستويات تفوق قدرة البشر، ومن الممكن جعلها واسعة المعرفة إلى أعماق تتجاوز أي قدرة بشرية فردية، إلا أن ابتكار الذكاء الآلي من شأنه خلق تحديات من نوع مختلف تمامًا. والسبب وراء ذلك هو أن الذكاء بالأساس هو المقدرة على استخدام ما نتعلمه للتعامل مع الأمور الجديدة وغير المتوقعة. فالذكاء يتعامل مع ما لا نعرفه، ومن ثم لا يمكن وصفه بسهولة من خلال القواعد والإجراءات. إنه لا يعتمد ببساطة على مستودع من الحقائق؛ لذلك فإننا أمام عملية نعجز في الوقت الحالي عن صياغة وصف دقيق لها يمكننا برمجته في الكمبيوتر. ومع ذلك، يجب أن نلاحظ الحقيقة المحورية المهمة المتمثلة في أن كثيرًا من المعرفة التي تعتمد عليها الفاعلية البشرية موضوعية، ورسمية، وصريحة. ومن ثم، فإنها من نوع يمكن إدراكه عبر الفاعلية الآلية.

يمكن تلخيص الاختلافات — النوعية والكمية — بين الفاعلية البشرية والفاعلية الآلية من خلال ثلاث فجوات تتعلق بمستويات الفاعلية المختلفة: الفجوة المهارية، والفجوة المعرفية، والفجوة البشرية. لا يمكننا أن نأمل في أن نكون مماثلين للآلات من ناحية نطاق إدراكها ودقتها، وسرعة حساباتها وقوتها، وإتقان معالجتها ودقتها. وكلما تطورت قوة المعالجة، ونطاق أجهزة الاستشعار وحساسيتها، وابتكار أشكال جديدة من المشغلات الميكانيكية؛ أصبحت الآلات أكثر قدرة في كافة المهارات التي لها علاقة بالتحكم بالكامل، وستوجد فجوة مهارية دائمة الاتساع بين البشر والآلة. كذلك لا يمكننا أن نأمل في أن نماثل الآلات في التعامل مع كميات البيانات شديدة الضخامة والتعقيد، أو في تطبيق قوة المعالجة على النظم الشكلية المعقدة مثل الرياضيات. إن أجهزة الكمبيوتر أفضل في تخزين واسترجاع المعرفة، وفي التعامل مع النظم الشكلية القائمة على الرموز مثل الرياضيات؛ لذا ستظل هناك فجوة معرفية دائمة التزايد بين البشر والآلة.

ومع ذلك، ثمة نظم معالجة معلومات بالغة التعقيد تطورت في الدماغ البشري، ولا يمكن محاكاتها في أي آلة من خلال أية عملية تصميم منهجي أو تجربة. بالتأكيد ليس قبل عقود، أو ربما ليس قبل قرون. إن أدمغتنا معقدة لدرجة بالغة، وهي ناشئة عن عصارة ما يساوي دهورًا من المعلومات المتراكمة على مدار تطور نوعنا البيولوجي إلى المادة الوراثية التي تميزنا، وما من سبل مختصرة لمحاكاة هذا التركيب المعقد. ومن ثم، ستظل فجوة البشرية قائمةً بين الإنسان والآلة، وستظل تجعل المستويات البشرية من الذكاء والاستبصار الانفعالي والقدرة على التعامل مع عدم اليقين أعلى من أن تدركها الآلة. وهكذا في كافة آفاق المستقبل التي يمكن تصورها في الوقت الحالي، ستظل الفواعل البشرية والآلية تكملان بعضهما بعضًا، لكن دون أن تستغني إحداهما عن الأخرى، وسيكون علينا تعلم كيفية التعايش مع الآلات، لكنها لا تستطيع أن تحل محلنا.

التعايش مع الآلات

يمكننا الآن أن نجيب عن الأسئلة الثلاثة التي طُرِحت في المقدمة؛ أولًا: هل بإمكاننا — في المستقبل القريب جدًّا — أن نعرف ما إذا كنا نتحدث مع جهاز كمبيوتر؟ هذا السؤال مثل كافة الأسئلة الفلسفية تعتمد إجابته بالأساس على فهم العناصر التي يتضمنها، ومن الأفضل أن تقسم الإجابة عن هذا السؤال إلى قسمين: جزء خاص، وجزء عام. أما من الناحية الخاصة، بالنسبة لنظم الكمبيوتر الأساسية المعنية بالأسئلة والأجوبة، فما من حوافز مالية لجعلها أكثر تطورًا من اللازم من ناحية المعرفة العامة والمحادثات المصطنعة. ومن ثم، على الرغم من التخلص المستمر من أوجه القصور الأكثر إزعاجًا في هذه النظم؛ فإنه سيظل واضحًا غياب العنصر البشري فيها. أما بالنسبة للنظم الأكثر تعقيدًا المصممة لإتاحة قدرة أفضل على الوصول إلى إجابة أسئلة المعرفة العامة، أو حل المسائل الرياضية والعلمية، فإن الإجابة متناقضة مع الحدس؛ فكلما زادت معرفة هذه النظم، وكلما بدت أكثر عقلانية زدنا يقينًا من عدم وجود عنصر بشري! وسيبدأ يتشكل لدينا اعتقاد بأننا نتحدث إلى ما يشبه موسوعة مؤتمتة، وربما تكون مزودة بشكل ضعيف من الدهاء. فمن الممكن أن تكون مبرمجة بطريقة تجعلها حين تواجه أسئلة لا يمكنها التعامل معها على أن ترد بإجابات مراوغة: «آسف، لكن ليس من المسموح لي أن أجيب عن الأسئلة الشخصية …» لذا ستزداد مسألة التأكد بالمطلق صعوبةً، فربما أنت مثلًا تتحدث مع شخص حصل للتو على جائزة نوبل.

ولذا أرى أنه من الممكن، من الناحية المبدئية، أن يُبَرمَج كمبيوتر فائق بحيث لا يكون إقحامه في محادثة عامة، مهما بلغ اتساع نطاقها، كافيًا لإقناعك بأنك لم تكن تتحدث مع بشري؛ فالمهارة في الإجابة، بل والأكثر من ذلك في المراوغة لتجنب الإجابة عن الأسئلة المرتبطة بالمعرفة العامة الشاملة، والقدرة الكبيرة على حل المسائل العلمية والمنطقية والرياضية، يمكن أن تقترن في أذهاننا بالمهارات الاجتماعية والتعاطف الزائف. ومن ثم، يتعين تطبيق منهج أكثر صرامة إلى حد كبير لاكتشاف الحقيقة، والذي سيتضمن البحث عن اختبارات للذكاء الإبداعي، والتعاطف العميق، والتأقلم الاجتماعي. وابتكار الاختبارات الوافية بالغرض سيزداد صعوبة مع زيادة قوة المعالجة. فإذا لم يعد باستطاعة الخبراء المتخصصين تحديد طريقة أو أخرى فإن العواقب ستكون وخيمة. إذن، لنجيب عن السؤال الثاني: هل ينبغي أن نصف هذا الكمبيوتر بالذكاء؟ الإجابة هي: لا، ليس الآن، لكن بالتأكيد يمكن أن نصفه باتساع المعرفة. ومع ذلك، ربما لا يمكن إدراك المستويات البشرية من الذكاء والتعاطف والقدرة الانفعالية إلا بعد زمن طويل في المستقبل.

أما الإجابة عن السؤال الثالث، فهي أن ثمة آثارًا خطيرة إلى حدٍّ بالغ على المجتمع، تترتب على تفوق مهارات الكمبيوتر بنحو متزايد على المهارات البشرية. ومع ذلك، فإن المكاسب الاقتصادية الضخمة التي يمكن تحقيقها من الاستخدام المتزايد لتكنولوجيا المعلومات الموظفة في الآلات ستثبت أنها لا تُقاوم. إن التحدي الأكبر الذي سنواجهه لا يكمن في كيفية زيادة تطوير مثل هذه التكنولوجيا، وإنما في تعلم كيفية التعايش مع هذا الأمر في شكل جديد للمجتمع. هكذا، ستكون المشكلات الأساسية التي تواجه ذلك المجتمع هي مشكلات سياسية وليست تقنية، وستحتاج الكثير من القضايا الفلسفية الجوهرية إلى إعادة دراسة.

ثمة أسباب للتفاؤل والتشاؤم عند تأمل هذا المستقبل؛ فقد يخلص الأشخاص ذوو الطبيعة المتشائمة إلى أن الضغوط المفروضة على المجتمع من قبل التأثير المستمر لتكنولوجيا المعلومات على التوظيف والتجارة والتعليم ربما تكون غير محتملة. أما ذوو الرؤية الأكثر تفاؤلًا، فقد يخلصون إلى أنه في ظل إشباع كافة الاحتياجات المادية، والتوافر السهل للموارد الضخمة المتمثلة في التمويل دائم التزايد للمعرفة العلمية والتقنية، سندخل عصرًا ذهبيًّا جديدًا خاليًا من الحاجة والمرض والحرمان. في حين قد يشير المتشككون إلى أنه عند التفكير فيما قد يكون موجودًا وراء سلسلة جبال منيعة في الوقت الحالي، يكون كل ما باستطاعتنا القيام به هو أن ندرس بتأنٍّ التضاريس التي ستقودنا إلى هناك، ونصدر بعض التحذيرات.

إن الآثار الفلسفية والعلمية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية التي ينذر بها الاستخدام المتزايد لتكنولوجيا المعلومات الموظفة في الآلات — آثار هائلة بحق. وقد يجد العلماء وخبراء التكنولوجيا التحديات مثيرة، لكن الصعوبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي سيواجهها باقي السكان مخيفة. إن أول من يرون بوضوح ما ينتظرنا سيواجهون مشهدًا مُجفلًا.

مجلة فيلوسوفي ناو، العدد 98
سبتمبر/أكتوبر 2013


© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>