كيف تدمِّر التكنولوجيا الوظائف!

27-10-2015 02:50 PM - عدد القراءات : 7460
كتب ديفيد روتمان ترجمة زينب عاطف
تقضي الأتمتة والتكنولوجيا الرقمية المتقدمة على الحاجة إلى الأشخاص في عدد متزايد من الوظائف. لقد نجونا من قبلُ من تغيرات تكنولوجية حادة، لكن هذه المرة ربما تكون مختلفة؛ فهل نحن بصدد مستقبل من فرص العمل البائسة وركود في الدخل وتفاقم في غياب المساواة؟
 كيف تدمِّر التكنولوجيا الوظائف!

نظرًا لسلوك إريك برنجلفسون الأكاديمي الهادئ المُتعقِّل، من السهل أن نُغفل كمْ أن رأيه مستفز بالفعل. ظل برنجلفسون — الأستاذ بكلية سلون للإدارة التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — ومساعده وشريكه في التأليف أندرو مكافي يجادلان طوال العام ونصف الماضيين بأن التطورات المبهرة في تكنولوجيا الكمبيوتر — بداية من علم صناعة الروبوتات المتقدم إلى خدمات الترجمة الآلية — تقف إلى حد كبير وراء البطء في نمو الوظائف على مدار السنوات العشر أو الخمس عشرة الأخيرة. والأسوأ من ذلك للموظفين، يتنبأ الأكاديميان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بآفاق قاتمة لكثير من أنواع الوظائف مع ازدياد تبني هذه التكنولوجيا الجديدة القوية، ليس فقط في مجال التصنيع والأعمال الإدارية وأعمال البيع بالتجزئة، لكن في مهن مثل المحاماة والخدمات المالية والتعليم والطب.

ربما تبدو إمكانية أن تحل الروبوتات والأتمتة والبرمجيات محل الأشخاص من الأمور البديهية لأي شخص عمل في مجال صناعة السيارات أو كوكيل سفر. إلا أن ادعاء برنجلفسون ومكافي أكثر إثارة للقلق والجدل. فهما يعتقدان أن التغير التكنولوجي السريع يدمر الوظائف أسرع من عمله على خلق فرص عمل جديدة، مما يسهم في ركود متوسط الدخل وزيادة عدم المساواة في الولايات المتحدة. كما أن أمرًا مماثلًا — بحسب اعتقادهما — يحدث في الدول الأخرى المتقدمة تكنولوجيًّا.

ربما يتمثل أكثر الأدلة الدامغة — على حد قول برنجلفسون — في رسم بياني لا يمكن أن يروق إلا لعالِم اقتصاد فقط. ففي علم الاقتصاد، تكون الإنتاجية — مقدار القيمة الاقتصادية الناشئة لكل وحدة إدخال محددة، مثل ساعة العمل — مؤشرًا مهمًّا لتحقيق النمو وتكوين الثروة، فهي مقياس للتقدم. وعلى الرسم البياني الذي يود برنجلفسون عرضه، يمثل الخطان المنفصلان الإنتاجية وإجمالي التوظيف في الولايات المتحدة. على مدار سنوات عقب الحرب العالمية الثانية، تعقب الخطان أحدهما الآخر عن قرب، حيث تزيد الوظائف على نحو متناسب مع الزيادة في الإنتاجية. إن النمط واضح: فمع توليد الأعمال التجارية قيمة أكبر من خلال عمالها، تصبح الدولة ككل أكثر ثراءً، مما يؤدي بدوره إلى مزيد من النشاط الاقتصادي ويخلق مزيدًا من فرص العمل. ثم بدءًا من عام 2000، بدأ الخطان يتباعدان، فتستمر الإنتاجية في الارتفاع بشدة، لكن التوظيف يذوي فجأة. وبحلول عام 2011، ظهرت فجوة واضحة بين الخطين، فيظهر نموٌّ اقتصاديٌّ دون زيادة موازية في خلق فرص العمل. يطلق برنجلفسون ومكافي على هذه الفجوة «الانفصال الكبير». ويقول برنجلفسون إنه واثق من أن التكنولوجيا وراء كل من النمو الصحي في الإنتاجية والنمو الضعيف في فرص العمل.

إنه لتأكيد مروع لأنه يهدد الثقة التي يضعها كثير من الاقتصاديين في التقدم التكنولوجي. لا يزال برنجلفسون ومكافي يؤمنان بأن التكنولوجيا تعزز الإنتاجية وتجعل المجتمعات أكثر ثراءً، لكنهما يعتقدان أنه قد يكون لها أيضًا جانب مظلم؛ فالتقدم التكنولوجي يقضي على الحاجة إلى كثير من أنواع الوظائف ويترك العامل العادي أسوأ حالًا من ذي قبل. يشير برنجلفسون إلى رسم بياني آخر يشير إلى أن متوسط الدخل لا يستطيع الارتفاع حتى مع ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي، ويقول: «إنها المفارقة الضخمة لعصرنا. فالإنتاجية وصلت إلى مستويات قياسية، والابتكار لم يكن قط أسرع من هذا، ومع ذلك في الوقت نفسه يوجد لدينا متوسط دخل منخفض ووظائف أقل. ويتخلف الأفراد لأن التكنولوجيا تتقدم بسرعة كبيرة لا تستطيع مهاراتنا ومؤسساتنا مواكبتها.»

إن برنجلفسون ومكافي ليسا من معارضي التغير التكنولوجي، بل إنهما أحيانًا يُتهمان بتفاؤلهما الشديد بشأن حجم التطورات الرقمية الحديثة وسرعتها. يقول برنجلفسون إنهما شرعا في كتابة «سباق مع الآلة» — وهو كتاب صدر في عام 2011 عرضا فيه جانبًا كبيرًا من حجتهما — لأنهما أرادا شرح الفوائد الاقتصادية لهذه التكنولوجيا الجديدة (أمضى برنجلفسون كثيرًا من عقد تسعينيات القرن العشرين في محاولة استكشاف أدلة على أن تكنولوجيا المعلومات تعزز معدلات الإنتاجية). إلا أنه اتضح لهما أن التكنولوجيا نفسها التي تجعل كثيرًا من الوظائف أكثر أمانًا وسهولة وأكثر إنتاجية تقلل أيضًا من الطلب على كثير من العمال البشر.

انفصال الإنتاجية عن التوظيف

يشير إريك برنجلفسون وأندرو مكافي إلى أن التكنولوجيا الرقمية قد زادت من الإنتاجية في الولايات المتحدة دون تحفيز النمو المتوقع في الوظائف. ونتيجة لهذا الانفصال، في حين ارتفع الناتج المحلي الإجمالي، لم يرتفع متوسط الدخل، وزادت عدم المساواة.

الإنتاجية والتوظيف في الولايات المتحدة

بدايةً من عام 2000، ظهرت فجوة متسعة بين الإنتاجية والتوظيف الخاص في إحصائيات العمل الفيدرالية (المؤشر: 1947 = 100).

الناتج لكل شخص يعمل في مجال التصنيع

في الدول الصناعية المتقدمة الرائدة، زاد ناتج كل عامل بصورة هائلة لأن المصانع أصبحت أكثر اعتمادًا على الأتمتة (المؤشر: 2002 = 100).

الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي لكل فرد ودخل القطاع العائلي

بينما ارتفع إجمالي إنتاج الدولة بوجه عام على مدار ال 25 سنة الماضية، فإن متوسط دخل القطاع العائلي كان ثابتًا تقريبًا (المؤشر: 1975 = 100).

الأتمتة في قطاع الخدمات لها تأثير مذهل

إن جعل قطاع الخدمات يعمل بكفاءة أكبر له تأثير ضخم على أرقام الإنتاجية لأن القطاع ضخم للغاية.

بالطبع تنتشر في كل مكان أقاويل مرسلة بشأن كون التكنولوجيا الرقمية تهدد الوظائف. فقد شاع استخدام الروبوتات والأتمتة المتقدمة في العديد من أنواع التصنيع لعقود. وفي الولايات المتحدة والصين — قُوَّتَا التصنيع الكبريان في العالم — يعمل حاليًّا في مجال التصنيع عدد أقل من ذلك العدد في عام 1997، وهذا يرجع — على الأقل جزئيًّا — إلى الأتمتة. إن مصانع السيارات الحديثة — التي تَغير الكثير منها بسبب تكنولوجيا الروبوتات الصناعية في ثمانينيات القرن العشرين — تستخدم بانتظام ماكينات تعمل تلقائيًّا على لحام أجزاء الهيكل وطلائها، وهي مهام كان البشر يقومون بها فيما مضى. ومؤخرًا فإن الروبوتات الصناعية مثل «باكستر» الذي صنعته شركة ريثينك روبوتيكس — والتي تتميز بأنها أكثر مرونة وأرخص بكثير من سابقاتها — قد أدخلت من أجل تأدية وظائف بسيطة من أجل صغار المُصنعين في قطاعات متنوعة. يعرض الموقع الإلكتروني لشركة مبتدئة في وادي السليكون اسمها إندستريال بيرسيبشن مقطع فيديو لروبوت صمَّمتْه الشركة لاستخدامه في المستودعات، فيظهر الروبوت في الفيديو وهو يلتقط الصناديق ويلقيها مثل فيلٍ يشعر بالملل. فهذه الأخبار المثيرة — تمامًا مثل سيارة جوجل بلا قائد — تشير إلى مدى ما تستطيع الأتمتة تحقيقه في يوم ما في القريب العاجل.

ثمة تغيير آخر أقل حدة — ولكن له تأثير محتمل أكبر بكثير على التوظيف — يحدث في الأعمال الإدارية والخدمات المهنية. فتعمل تكنولوجيا مثل شبكة الويب والذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والتحليلات المحسنة — التي أصبحت كلها ممكنة بسبب الإتاحة المستمرة لقوة حاسوبية وطاقة تخزين رخيصة التكلفة — على أتمتة كثير من المهام الروتينية. لقد اختفى عدد لا يحصى من الوظائف التقليدية المرموقة، مثل كثير من الوظائف في مكتب البريد وخدمة العملاء. يُطلق دبليو براين آرثر — باحث زائر في مختبر أنظمة الذكاء التابع لمركز أبحاث زيروكس في بالو ألتو وأستاذ اقتصاد سابق بجامعة ستانفورد — على هذا «الاقتصاد الذاتي». إن الأمر أكثر تعقيدًا من فكرة الروبوتات وقيام الأتمتة بوظائف البشر، فيقول إنها تتضمن «عمليات رقمية تُحدَّث إلى عمليات رقمية أخرى وتنتج عمليات جديدة»، مما يمكننا من تأدية كثير من المهام بعدد أقل من الأشخاص، ويجعل أيضًا الوظائف البشرية الأخرى جزءًا من الماضي.

يقول آرثر: إن هجوم العمليات الرقمية هذا هو ما يفسر في المقام الأول كيف ارتفعت الإنتاجية دون زيادة بارزة في العمل البشري. كما يقول إن: «النسخ الرقمية من الذكاء البشري» تحل على نحو متزايد محل الوظائف التي كان يُعتقد في وقت من الأوقات أنها تتطلب البشر. ويحذر: «إنها ستغيِّر كل مهنة بطرق لم نرَ منها شيئًا بعد.»

يتحدث مكافي — مدير مشارك لمركز معهد ماساتشوستس لتكنولوجيا الأعمال الرقمية في كلية سلون للإدارة — سريعًا وبقدر من الرهبة عند وصفه للتطورات مثل سيارة جوجل التي تعمل دون سائق. ومع ذلك رغم حماسه الواضح للتكنولوجيا، فإنه لا يرى أن الوظائف التي اختفت مؤخرًا ستعود مرة أخرى. ويشير إلى أن الضغط على قضية التوظيف وما ينتج عنها من عدم المساواة ستزداد سوءًا مع استمرار التكنولوجيا الرقمية — يحركها «ما يكفي من القوة الحاسوبية والبيانات والخبراء» — في تقدمها الأُسِّيِّ على مدار العقود العديدة القادمة. ويضيف قائلًا: «أود أن أكون مخطئًا، لكن عند استخدام كل تكنولوجيا الخيال العلمي هذه، فيمَ سنحتاج الناس؟»

اقتصاد جديد؟

لكن هل هذه التقنيات الجديدة مسئولة بالفعل عن نمو واهٍ في الوظائف على مدار عقد من الزمن؟ يقول كثير من علماء اقتصاديات العمل إن البيانات — على أحسن تقدير — أبعد ما تكون عن كونها نهائية. وربما يكون العديد من التفسيرات المنطقية الأخرى — بما في ذلك الأحداث المتعلقة بالتجارة العالمية والأزمات المالية في مطلع وأواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين — السبب في البطء النسبي في خلق فرص العمل منذ مطلع القرن. يقول ريتشارد فريمان أحد علماء اقتصاديات العمل في جامعة هارفرد: «لا أحد يعرف يقينًا»، ويشير إلى أن هذا بسبب الصعوبة البالغة في «فصل» تأثير التكنولوجيا عن تأثيرات الاقتصاد الكلي الأخرى. إلا أنه يشك في أن التكنولوجيا ستغير نطاقًا واسعًا من قطاعات العمل بسرعة كافية تفسر عدد الوظائف الحالية.

يشك ديفيد أوتور — عالم الاقتصاد بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الذي درس بتوسع العلاقات بين الوظائف والتكنولوجيا — أيضًا في أن التكنولوجيا يمكن أن تكون سببَ مثل هذا التغير المفاجئ في إجمالي العمالة. فيقول: «لقد حدث انخفاض كبير في التوظيف بداية من عام 2000. لقد تغير شيء ما. لكن لا أحد يعرف السبب.» بالإضافة إلى ذلك، فهو يشك في أن الإنتاجية قد ارتفعت بقوة — فعليًّا — في الولايات المتحدة خلال العقد الماضي (قد يختلف علماء الاقتصاد بشأن هذه الإحصائية بسبب وجود طرق مختلفة لقياس ووزن المدخلات والمخرجات الاقتصادية). وإذا كان محقًّا، فإن هذا يطرح إمكانية أن يكون النمو الضعيف في الوظائف ببساطة نتيجة لركود الاقتصاد. فهو يقول أيضًا إن التباطؤ المفاجئ في خلق فرص العمل «لهو لغز كبير، لكن لا توجد أدلة كثيرة على أنه يرتبط بأجهزة الكمبيوتر.»

يقول أوتور: إن الشيء الأكيد أن تكنولوجيات الكمبيوتر تغير أنواع الوظائف المتاحة، وهذه التغيرات «لا تكون دومًا للأفضل.» ويضيف أنه على الأقل منذ ثمانينيات القرن العشرين تزايد استيلاء أجهزة الكمبيوتر على مهام مثل إدارة الحسابات والأعمال الإدارية ووظائف الإنتاج المتكرر في مجال التصنيع — التي كانت جميعها توفر عادةً أجور الطبقة المتوسطة. في الوقت نفسه، تزايد عدد الوظائف مرتفعة الأجور التي تتطلب إبداعًا ومهارات حل المشكلات، التي عادةً ما تستعين بأجهزة الكمبيوتر. أما فيما يتعلق بالوظائف التي تتطلب مهارات منخفضة؛ فقد تزايد الطلب على عمال المطاعم وحراس العقارات ومسئولي الرعاية الصحية المنزلية وغيرهم ممن يؤدون أعمالًا خدمية يستحيل تقريبًا أَتْمَتَتُها. ويقول أوتور: إن النتيجة كانت «تقسيم» القوى العاملة إلى قطبين متنافرين «وتفريغ» الطبقة المتوسطة، وهو أمر يحدث في العديد من الدول الصناعية على مدار العقود العديدة الأخيرة. إلا أنه يضيف أن: «هذا يختلف تمامًا عن قول إن التكنولوجيا تؤثر في العدد الإجمالي للوظائف. فالوظائف يمكن أن تتغير كثيرًا دون وجود تغيرات هائلة في معدلات التوظيف.»

الأكثر من ذلك أنه حتى إذا كانت التكنولوجيا الرقمية في عصرنا الحالي تحد من خلق فرص العمل، فإن التاريخ يشير إلى أنها على الأرجح صدمة مؤقتة، وإن كانت مؤلمة؛ فعندما يكيف العمال مهاراتهم بناء على التكنولوجيا الجديدة ويخلق أصحاب الأعمال الفرص على أساسها، فإن عدد الوظائف سيعود إلى ما كان عليه. على الأقل، كان هذا هو النمط السائد طوال الوقت. إذن، فإن القضية الآن ما إذا كانت التقنيات الحاسوبية الحالية مختلفة، حيث تعمل على خلق بطالة غير متعمدة طويلة الأمد.

على الأقل منذ بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، غيرت التحسينات في التكنولوجيا طبيعة العمل ودمرت بعض أنواع الوظائف إبان ذلك. في عام 1900، كان 41 في المائة من الأمريكيين يعملون في الزراعة؛ وفي عام 2000، كانت هذه النسبة 2 في المائة فقط. بالمثل انخفضت نسبة الأمريكيين العاملين في مجال الصناعة من 30 في المائة في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية إلى 10 في المائة حاليًّا؛ جزئيًّا بسبب الأتمتة المتزايدة لا سيما خلال ثمانينيات القرن العشرين.

بينما قد تكون مثل هذه التغيرات مؤلمة للعمال الذين لم تعد مهاراتهم تتماشى مع احتياجات أصحاب الأعمال، يقول لورانس كاتز — عالم الاقتصاد في جامعة هارفرد — إنه لا يوجد نمط تاريخي يظهر أن هذه التحولات تؤدي إلى انخفاض إجمالي في الوظائف على مدار فترة ممتدة. أجرى كاتز بحثًا موسعًا عن كيف أثرت التطورات التكنولوجية على الوظائف على مدار القرون القليلة الماضية، حيث يصف — على سبيل المثال — كيف حل العمال الأقل مهارة محل الحرفيين من أصحاب المهارات العالية في منتصف القرن التاسع عشر في المصانع. ويقول إنه بينما قد يستغرق الأمر عقودًا حتى يكتسب العمال المهارة اللازمة لأنواع العمل الجديدة، «فإن الوظائف لم تنفد أبدًا. فلا يوجد توجه طويل الأمد لإلغاء عمل الأفراد. فعلى المدى البعيد، تكون معدلات التوظيف مستقرة إلى حد ما. لقد استطاع الأشخاص دومًا ابتكار وظائف جديدة؛ فالناس تبتكر أشياء جديدة لتقوم بها.»

مع ذلك، لا يستبعد كاتز فكرة وجود شيء مختلف في التكنولوجيا الرقمية في عصرنا الحالي، شيء يمكن أن يؤثر على نطاق أوسع من العمل. فيقول إن القضية هي ما إذا كان التاريخ الاقتصادي سيعمل كدليل مفيد. فهل ستكون الاضطرابات في الوظائف التي سببتها التكنولوجيا مؤقتة بسبب تكيف القوى العاملة، أم أننا سنرى سيناريو من سيناريوهات الخيال العلمي تستولي فيه العمليات الآلية والروبوتات ذات المهارات الخارقة التي تفوق قدرات البشر على قطاع عريض من مهام البشر؟ ورغم أن كاتز يتوقع أن يستمر النمط التاريخي على حاله، فإنه يقول إنه: «لتساؤل بالفعل. فإذا أحدثت التكنولوجيا اضطرابًا بالقدر الكافي، من يدري ماذا سيحدث؟»

دكتور واطسون

من أجل التعرف أكثر على تساؤل كاتز، يجدر بنا فحص كيفية استخدام أكثر التقنيات تقدمًا في العصر الحالي في مجال الصناعة. رغم أن هذه التقنيات قد استولت بلا شك على بعض وظائف البشر، فإن العثور على أدلة على استبدال الآلات بالعمال على نطاق واسع ليس بهذه السهولة. أحد أسباب صعوبة تحديد التأثير الإجمالي على الوظائف هو أن الأتمتة عادةً ما تُستخدم من أجل جعل العمال البشر أكثر كفاءة، وليس بالضرورة أن تحل محلهم. إن زيادة الإنتاجية تعني قدرة الشركات على القيام بالعمل نفسه في ظل وجود عدد أقل من الموظفين، لكنها ربما تعني أيضًا تمكين الشركات من زيادة الإنتاج باستخدام عمالها الحاليين، بل وأيضًا دخول أسواق جديدة.

انظر مثلًا روبوت شركة كيفا ذا اللون البرتقالي الزاهي، الذي يعد هبة لشركات التجارة الإلكترونية التي لا تزال في بدايتها. إن هذه الروبوتات — التي صنعتها وباعتها شركة كيفا سيستيمز، وهي شركة ناشئة تأسست في عام 2002 واشترتها أمازون مقابل 775 مليون دولار في عام 2012 — مصممة لتركض عبر المستودعات الضخمة، وتجلب رفوف البضائع المطلوبة وتسلم المنتجات للبشر الذين يقومون بتعبئة الطلبات. في مستودع شركة كيفا الضخم المخصص للعرض ومصنع التجميع في مقرها خارج بوسطن، تتحرك أساطيل من الروبوتات هنا وهناك بطاقة يبدو أنها لا تنتهي: فبعض الآلات المجمعة حديثًا تخضع لاختبارات لإثبات أنها جاهزة للشحن إلى العملاء في جميع أنحاء العالم، بينما تنتظر آلات أخرى للعرض أمام الزائرين لتثبت كيف أنها تستطيع الاستجابة تقريبًا على الفور إلى أي أمر إلكتروني وتجلب المنتج المطلوب إلى مكان العامل.

يستطيع المستودع المجهز بروبوتات شركة كيفا التعامل مع ما يصل إلى أربعة أضعاف عدد الطلبات التي يتعامل معها مستودع مشابه غير آلي، حيث ربما يقضي العمال نحو 70 في المائة من وقتهم في السير هنا وهناك من أجل إحضار البضائع. (سواء أكان هذا من قبيل المصادفة أم لا، فإن أمازون اشترت كيفا عقب إظهار أحد التقارير الصحفية أن العمال في أحد المستودعات الضخمة التابعة لها يسيرون عادةً أكثر من 10 أميال في اليوم.)

رغم قدرة هذه الروبوتات على توفير العمل، فإن مايك ماونتز — مؤسس شركة كيفا ورئيسها التنفيذي — يقول إنه يشك في أن الآلات قد جعلت كثيرًا من الناس يفقدون وظائفهم أو سيفقدونها في المستقبل. ويقول: إن أحد أسباب هذا أن معظم عملاء شركة كيفا من تجار التجزئة الذين يتعاملون بالتجارة الإلكترونية، وبعضهم ينمو نموًّا سريعًا بحيث لا يستطيع توظيف أشخاص بالسرعة الكافية. وقد ساعدت تكنولوجيا الروبوتات هذه — من خلال جعل عمليات التوزيع أقل تكلفة وأكثر كفاءة — كثيرًا من تجار التجزئة هؤلاء على البقاء، بل والتوسع أيضًا. قبل تأسيس ماونتز لشركة كيفا، كان يعمل في شركة ويب فان — وهي شركة توصيل بقالة عبر الإنترنت، وكانت واحدة من أكثر الإخفاقات سيئة السمعة في عصر شركات الإنترنت في تسعينيات القرن العشرين. وهو يحب عرض الأرقام التي تظهر أن شركة ويب فان كان محكومًا عليها بالفشل منذ البداية؛ فكان الطلب بقيمة 100 دولار يكلف الشركة 120 دولار في شحنه. إن وجهة نظر ماونتز واضحة: فشيء بسيط مثل تكلفة التعامل مع المواد بإمكانه التسبب في القضاء على شركة جديدة مبكرًا. وهكذا، يمكن للأتمتة حل هذه المشكلة.

في الوقت نفسه تعين شركة كيفا نفسها موظفين جددًا. فالبالونات البرتقالية — بنفس لون الروبوتات — المعلقة فوق التقسيمات المكتبية المتعددة في مكتبها المتسع، تشير إلى أن أصحاب هذه المكاتب قد وصلوا خلال الشهر الماضي. ومعظم هؤلاء الموظفين الجدد مهندسو برمجيات؛ فبينما تعد الروبوتات واجهة الشركة، فإن الابتكارات الأقل شهرة تكمن في الخوارزميات المعقدة التي توجه حركات الروبوتات وتحدد مكان تخزين البضائع في المستودع. تساعد هذه الخوارزميات في جعل النظام قابلًا للتكيف. فعلى سبيل المثال، يستطيع أن يعلم أن منتجًا معينًا لا يواجه طلبًا مكثفًا، ومن ثم يجب تخزينه في منطقة بعيدة.

مستقبل الوظائف

توجد أدلة وفيرة على أن التطورات التكنولوجية تؤثر على نوعية الوظائف المطلوبة. فتزداد الوظائف التي تتطلب مهارة عالية والتي تستفيد عادةً من أجهزة الكمبيوتر، تمامًا مثلما تزداد الوظائف التي لا تتطلب مهارات عالية مثل الرعاية الصحية المنزلية، والتي تعد صعبة الأتمتة. إلا أن كثيرًا من الوظائف متوسطة المهارات تختفي.

نمو الوظائف في الولايات المتحدة حسب العقد

يوضح التغير بالنسبة المئوية في الوظائف غير الزراعية على مدار العقود السبعة الماضية كيف كانت توقعات الوظائف كئيبة منذ عام 2000.

التوظيف في قطاع الصناعة

تمثل الوظائف في قطاع الصناعة حاليًّا وظيفة واحدة فقط من كل 10 وظائف في الولايات المتحدة. أما ألمانيا — التي تمثل قوة تصنيعية — فحالها أفضل إلى حد ما.

تفريغ الطبقة الوسطى

يظهر بحث ديفيد أوتور — عالم الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — أنه بين عامي 1980 و2005 عانت الطبقة المتوسطة في نصيبها من الوظائف ونمو الأجور. يوضح الرسم البياني الأول نصيب العمال من الوظائف على اختلاف مستويات مهارتهم، في حين يوضح الرسم البياني الثاني التغيرات في الأجور.

خليط الوظائف

تعكس أسرع الوظائف نموًّا في الولايات المتحدة من عام 2000 إلى عام 2010 الطلب على المهارات التقنية العالية وعلى الوظائف منخفضة المهارات التي يصعب أتمتتها. أما الوظائف الروتينية فهي عرضة بصورة خاصة للأتمتة.

رغم أن مثل هذه التطورات تشير إلى إمكانية أن تتعرض بعض جوانب العمل للأتمتة، فإنها توضح أيضًا أن البشر ما زالوا يبرعون في مهام معينة؛ على سبيل المثال، تعبئة مواد متعددة معًا. لا تزال كثير من المشكلات التقليدية في تصنيع الروبوتات — مثل كيفية تعليم الآلة تمييز شيء معين، كرسي مثلًا — غير قابلة للحل بقدر كبير، ويصعب حلها على وجه الخصوص عندما تتمتع الروبوتات بحرية الحركة في كل مكان في بيئة غير محددة المعالم إلى حد ما مثل مصنع أو مكتب.

أفادت التقنيات التي تستخدم كميات ضخمة من الطاقة الحاسوبية الروبوتات للغاية في فهم البيئة المحيطة بها، لكن جون ليونارد — أستاذ الهندسة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وعضو في مختبر المعهد لعلوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي — يقول إنه لا تزال العديد من الصعوبات الشائعة قائمة. فيقول: «يرى جزء مني تقدمًا متسارعًا، في حين يرى الجزء الآخر المشكلات القديمة نفسها. فأنا أرى مدى صعوبة القيام بأي شيء باستخدام الروبوتات. فالتحدي الكبير هو الريبة.» بعبارة أخرى، لا يزال الأشخاص أفضل حالًا في التعامل مع التغيرات في بيئتهم والتفاعل مع الأحداث غير المتوقعة.

يقول ليونارد إنه لهذا السبب من الأسهل رؤية كيف يمكن للروبوتات العمل «مع» البشر بدلًا من العمل وحدها في كثير من التطبيقات. فيقول: «يمكن أن يحدث التعاون بين البشر والروبوتات أسرع بكثير من أن تحل الروبوتات محل البشر. فهذا لن يحدث خلال حياتي على نطاق واسع. فسيارات التاكسي شبه ذاتية التحكم سيظل بها سائق.»

أحد الروبوتات اللطيفة والأكثر مرونة الذي صُمم للعمل مع البشر هو «باكستر» الذي صنعته شركة ريثينك. إن باكستر — الذي يعد من إبداعات رودني بروكس مؤسس الشركة — يحتاج إلى أقل قدر من التدريب حتى ينفذ مهام بسيطة مثل التقاط الأشياء ونقلها إلى صندوق. يفترض بهذا الروبوت أن يُستخدم في المنشآت الصناعية الصغيرة نسبيًّا، حيث تكون تكلفة استخدام الروبوتات الصناعية التقليدية مرتفعة وتمثل خطرًا كبيرًا على العمال. يقول بروكس: إن الفكرة تتمثل في أن تتولى الروبوتات الوظائف المملة والمتكررة التي لا يريد أحد القيام بها.

من الصعب ألا يروق باكستر لأي شخص فور رؤيته، جزئيًّا لأنه يبدو متحمسًا لإرضائك. فيرفع «حاجبيه» الموجودين على شاشته في حيرة عندما يكون متحيرًا، ويسحب ذراعيه بخضوع وهدوء عندما يصطدم بشيء. يجيب بروكس عند سؤاله عن الزعم بأن مثل هذه الروبوتات الصناعية المتقدمة بإمكانها إلغاء الوظائف، ببساطة أنه لا يرى الأمر على هذا النحو؛ فهو يقول: إن الروبوتات تكون لعمال المصانع بمثابة المثقاب الكهربائي لعمال البناء: «فهي تجعلهم أكثر إنتاجًا وكفاءة، لكنها لا تستولي على الوظائف.»

لقد صُممت الآلات من إنتاج شركتي كيفا وريثينك وصُنعت بذكاء للعمل مع البشر، وتتولى المهام التي عادةً لا يريد البشر تأديتها أو لا يبرعون فيها. فهي مصممة على وجه الخصوص من أجل تعزيز إنتاجية هؤلاء العمال، ومن الصعب رؤية كيف يمكن لهذه الروبوتات متزايدة التعقيد أن تحل محل البشر في معظم الوظائف التصنيعية والصناعية في أي وقت قريب. إلا أن الوظائف الإدارية وبعض الوظائف المهنية ربما تكون أكثر عرضة للخطر. يرجع هذا إلى أن التزاوج بين الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة قد بدأ يعطي الآلات قدرة قريبة الشبه من قدرات البشر على التفكير وحل العديد من أنواع المشكلات الجديدة.

باكستر: باكستر من إنتاج شركة ريثينك روبوتيكس هو روبوت صُمم للعمل مع البشر في المنشآت الصناعية الصغيرة. تظهر عيناه المعبرتان الشيء الذي «ينظر» إليه الروبوت وتجعلان الإنسان الموجود بقربه يعلم إذا كان مرتبكًا.
باكستر: باكستر من إنتاج شركة ريثينك روبوتيكس هو روبوت صُمم للعمل مع البشر في المنشآت الصناعية الصغيرة. تظهر عيناه المعبرتان الشيء الذي «ينظر» إليه الروبوت وتجعلان الإنسان الموجود بقربه يعلم إذا كان مرتبكًا.
كيفا: يستطيع روبوت شركة كيفا سيستمز التنقل سريعًا في أرجاء المستودعات الضخمة للعثور على المنتجات المطلوبة. عندها يلتقط الرف الصحيح أو المنصة النقالة ويحضرها إلى العامل الذي يقوم بتعبئة البضائع.
كيفا: يستطيع روبوت شركة كيفا سيستمز التنقل سريعًا في أرجاء المستودعات الضخمة للعثور على المنتجات المطلوبة. عندها يلتقط الرف الصحيح أو المنصة النقالة ويحضرها إلى العامل الذي يقوم بتعبئة البضائع.
واطسون: إن كمبيوتر واطسون من إنتاج شركة آي بي إم — الذي فاز في برنامج «جيوباردي!» في عام 2011 — يجمع بين الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة ومعالجة اللغات الطبيعية حتى يقدم النصح للأطباء أو المتصلين بخطوط دعم العملاء.
واطسون: إن كمبيوتر واطسون من إنتاج شركة آي بي إم — الذي فاز في برنامج «جيوباردي!» في عام 2011 — يجمع بين الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة ومعالجة اللغات الطبيعية حتى يقدم النصح للأطباء أو المتصلين بخطوط دعم العملاء.

في الضواحي الشمالية المترفة من مدينة نيويورك، تدفع شركة آي بي إم ريسيرش بالحوسبة فائقة الذكاء إلى مجالات مهن مثل الطب والقطاع المالي وخدمة العملاء. وقد أسفرت جهود آي بي إم عن جهاز واطسون — وهو نظام كمبيوتر اشتهر بهزيمته لأبطال البشر في برنامج الألعاب «جيوباردي» في عام 2011. توجد هذه النسخة من واطسون حاليًّا في ركن في مركز بيانات ضخم في منشأة للأبحاث في يورك تاون هايتس، توضع عليه لوحة متوهجة تخليدًا لذكرى أيام مجده. في الوقت نفسه، يختبر الباحثون هناك بالفعل أجيالًا جديدة من واطسون في مجال الطب، حيث تستطيع هذه التكنولوجيا مساعدة الأطباء في تشخيص أمراض مثل السرطان، وتقييم حالة المرضى ووصف الأدوية.

تحب آي بي إم أن تطلق على هذا «الحوسبة الإدراكية». يستخدم واطسون في الأساس تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ المعالجة المتقدمة للغات الطبيعية والتحليلات، وكميات ضخمة من البيانات المأخوذة من مصادر خاصة بتطبيق معين (في حالة الرعاية الصحية، هذا يعني الدوريات الطبية والكتب الدراسية والمعلومات التي تُجمع من الأطباء أو المستشفيات التي تستخدم النظام). وبفضل هذه التقنيات المبتكرة والكميات الهائلة من الطاقة الحاسوبية، يمكنه التوصل سريعًا إلى «نصيحة»؛ على سبيل المثال، أحدث المعلومات ذات الصلة لتوجيه أحد الأطباء في التشخيص الذي يضعه وقرارات العلاج التي يتخذها.

رغم القدرة الاستثنائية لهذا النظام على فهم كل هذه البيانات، فإن هذه لا تزال الأيام الأولى لدكتور واطسون. فبينما توجد لديه قدرات أولية «للتعلم» من أنماط معينة وتقييم احتمالات مختلفة، فإنه أبعد ما يكون عن امتلاك ملكتي التمييز والحدس اللتين يحتاج إليهما الطبيب عادةً. إلا أن شركة آي بي إم أعلنت أيضًا أنها ستبدأ في بيع خدمات واطسون إلى مراكز اتصال دعم العملاء، التي نادرًا ما تتطلب ملكة التمييز لدى البشر التي تعد معقدة للغاية. تقول شركة آي بي إم إن الشركات ستستأجر نسخة محدثة من واطسون لاستخدامها «كموظف خدمة عملاء» يجيب عن أسئلة العملاء، ولقد بدأ الكمبيوتر العمل بالفعل في العديد من البنوك. إن الأتمتة — بالطبع — ليست بالشيء الجديد في مراكز الاتصال، لكن قدرة واطسون المحسنة في معالجة اللغات الطبيعية وقدرته على الاستفادة من كم هائل من البيانات تشير إلى أن هذا النظام يستطيع التحدث بوضوح مع المتصلين ويقدم لهم نصيحة محددة حتى بشأن الأسئلة الفنية والمعقدة. فمن السهل رؤيته يحل محل كثير من البشر الرافضين العمل في مجاله الجديد هذا.

خاسرون رقميون

إن الجدل بأن الأتمتة والتكنولوجيا الرقمية مسئولة جزئيًّا عن النقص الحالي للوظائف من الواضح أنه قد لمس وترًا حساسًا لدى كثيرين ممن يخشون على وظائفهم. إلا أن هذا لا يمثل سوى نتيجة واحدة فقط لما يراه برنجلفسون ومكافي على أنه اتجاه أوسع؛ فيقولان إن التحرك السريع للتقدم التكنولوجي قد أدى إلى اتساع الفجوة كثيرًا بين الفائزين والخاسرين في مجال الاقتصاد؛ أي التباينات في الدخل التي خشي منها كثير من علماء الاقتصاد لعقود. فيشيران إلى أن التكنولوجيا الرقمية تميل إلى تفضيل «النجوم». على سبيل المثال، ربما يحصل شخص يبتكر برنامج كمبيوتر يجعل إعداد الضرائب آليًّا على ملايين أو مليارات الدولارات، في حين يلغي الحاجة إلى عدد لا يحصى من المحاسبين.

يقول مكافي إن التكنولوجيا الجديدة «تتعدى على المهارات البشرية بطريقة غير مسبوقة على الإطلاق»، وكثير من وظائف الطبقة المتوسطة معرضة للإصابة إصابة مباشرة، حتى العمل الذي يتطلب مهارة مرتفعة نسبيًّا في التعليم والطب والقانون يتأثر. ويضيف: «يبدو أن مفهوم الطبقة المتوسطة يختفي. فمن الواضح أن الفجوة تتزايد بين القمة والقاعدة.» ويقول مكافي إنه بينما قد تكون التكنولوجيا عاملًا واحدًا فحسب، فإنها من العوامل التي «أُبخست قدرها» ويُحتمل أن تتزايد أهميتها.

لا يتفق الجميع مع استنتاجات برنجلفسون ومكافي، لا سيما القول بأن تأثير التغير التكنولوجي الحالي ربما يختلف عن أي شيء رأيناه من قبل. إلا أنه من الصعب تجاهل تحذيرهما بأن التكنولوجيا تزيد من اتساع الفجوة في الدخل بين البارعين في التكنولوجيا وأي شخص آخر. وحتى إن كان الاقتصاد يمر فقط بتحول مشابه للتحولات التي تحملها من قبل، فإنه تحول مؤلم للغاية للكثير من العاملين، ويجب التعامل مع هذا الأمر بطريقة ما. أظهر كاتز الذي يعمل بجامعة هارفرد أن الولايات المتحدة قد ازدهرت في أوائل القرن العشرين جزئيًّا لأن التعليم الثانوي أصبح متاحًا لكثير من الأشخاص في الوقت الذي كانت فيه الوظائف في مجال الزراعة تنفد. كانت النتيجة — على الأقل خلال فترة الثمانينيات من القرن نفسه — زيادة في العمال المتعلمين الذي وجدوا وظائف في القطاعات الصناعية، مما عمل على رفع الدخول وتقليل عدم المساواة. الدرس المستفاد مما يقوله كاتز هو أن النتائج طويلة الأمد المؤلمة للقوى العاملة لا تكون نتيجة حتمية للتغيرات التكنولوجية.

يقول برنجلفسون نفسه إنه ليس مستعدًا لاستنتاج أن التقدم الاقتصادي والتوظيف قد تباعدا للأبد. فيقول: «لا أدري إذا كان بإمكاننا التعافي، لكني آمل أن نستطيع هذا.» إلا أن هذا التعافي — على حد قوله — سيعتمد على إدراك المشكلة واتخاذ خطوات، مثل مزيد من الاستثمار في تدريب العمال وتعليمهم.

فيقول: «لقد كنا محظوظين وأدت زيادة الإنتاجية بانتظام إلى إفادة الجميع لجزء كبير من القرن العشرين. ذهب كثير من الناس — خاصة علماء الاقتصاد — سريعًا إلى استنتاج أن العالم هكذا يسير. لقد اعتدت القول إننا إذا اهتممنا بالإنتاجية، فإن كل شيء آخر سينصلح من تلقاء نفسه؛ وقد كانت هذه هي الإحصائية الاقتصادية المفردة الأكثر أهمية. إلا أن هذا لم يعد صحيحًا.» ويضيف: «إن أحد الأسرار البغيضة لعلم الاقتصاد أن التقدم التكنولوجي ينمي الاقتصاد بالفعل ويخلق الثروة، لكن لا يوجد قانون اقتصادي يقول إن كل شخص سيستفيد.» بعبارة أخرى، في السباق ضد الآلة، على الأرجح سيفوز البعض، بينما سيخسر الكثيرون.



© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>