إعلام السلطة يقمع الواقع بسلطة الواقع الافتراضي

28-08-2016 02:33 PM - عدد القراءات : 289
كتب مروان ياسين الدليمي
تعوض وسائل التواصل الافتراضي اليوم قطاعا واسعا من وسائل الإعلام التقليدي في صناعة الرأي العام، وقد تفطنت السلطة السياسية إلى هذه الظاهرة بطريقة جعلت من موظفيها الإعلاميين جيوشا متخفية تقوم بالدعاية المضادة لكل رأي معارض لتلك السياسات، وهذا ما يحدث في العراق عبر تواصل سياسة القمع في الواقع ليكون لتلك السياسة القمعية صدى في فيسبوك وتويتر.
إعلام السلطة يقمع الواقع بسلطة الواقع الافتراضي

تصاعد حدة التعليقات أحيانا وتخفت أحيانا أخرى ما بين الذين يدافعون عن الحكومة العراقية من جهة ومعارضيها من جهة ثانية، على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي خاصة بين رواد موقعي فيسبوك وتويتر، وبارومتر هذا الجدل يرتفع ويهبط تبعا للأحداث السياسية التي يشهدها الشارع العراقي، الذي يخضع منذ سقوط بغداد سنة 2003 لعواصف شديدة أحيانا تقتلع كل شيء يقف أمامها وتحيله رمادا، وبذلك يمكن أن يكون الواقع الافتراضي على شبكة الإنترنت عينة تشير إلى الواقع.

هذه التعليقات لا يمكن أن تكون صورة مستنسخة عن حقيقة الواقع التي نجدها تكشف عن نفسها وبشكل آخر في البنية التحتية للواقع المجتمعي وتحمل بين طياتها قدرا كبيرا من المصداقية.

في كل الأحوال يمكن أن تكون هذه التعليقات أو التويتات معبّرة عن بنية الصراع الفوقي داخل المنظومة السياسية التي تمثلها كتل وأحزاب وشخصيات مؤثرة أكثر من أن تكون مجسّا لقياس نبض الحياة الواقعية وما يخفيه الشارع من حوار داخلي محتدم لا يصل منه إلى تلك المواقع والصفحات الإلكترونية سوى صدى ضعيف، هذا إنْ لم يتم تشويهه بالشكل الذي لا يعكس حقيقته.

ليس خافيا على المراقبين للمشهد السياسي العراقي أن القوى العراقية الحاضرة والفاعلة في العملية السياسية بعد العام 2003 بكل رموزها ليس لها امتدادات عميقة وحقيقية في قاع الحياة المجتمعية بما في ذلك القوى الكبيرة التي تمسك بالسلطة مثل حزب الدعوة الحاكم، فهي لم تعد تملك رصيدها الشعبي الذي كانت تعتمد عليه قبل سقوط نظام البعث لأنها فرّطت في كل ما كان يشكل عنصر قوة للبلاد، ولم تكن هيمنتها طيلة الأعوام التي أعقبت الاحتلال إلاّ بدعم ومساندة من قبل إيران، وتغاض واضح من قبل الأميركان رعاة التدمير.

إن أحزاب السلطة الكبيرة أدركت مبكرا أهمية منصات التواصل الاجتماعي فأرادت أن تغرقها بالأصوات المؤيدة لها بهدف إيصال خطابها إلى رواد هذه المواقع بعد أن لاحظت ازدياد أعدادهم يوما بعد آخر، وزيادة عدد الساعات التي يقضونها في تفاعلهم معها، حتى أنها أصبحت المصدر الرئيس الذي يستقون منه الأخبار بدلا من الصحف والمجلات رغم افتقاد معظم ما يتم تداوله فيها من أخبار إلى المصدر الموثوق، وبذلك أمست هذه المنصات تساهم بدرجة كبيرة في عملية غسل أدمغة أعداد كبيرة من روادها.

جاء اهتمام أحزاب السلطة بالمواقع الإلكترونية متزامنا مع نجاحها في تقليم أظافر الإعلام الخاص عندما تمكنت من تحجيم الدور الرقابي للقنوات الفضائية والصحف الخاصة، ونجحت في أن تغلق عددا منها مثل قناة البغدادية الفضائية؛ إذ تمكنت من ممارسة دور مشبوه من خلاله حالفها النجاح فاستجابت الجهات المسؤولة عن إدارة القمر الاصطناعي نايل سات لرغبة هذه الأحزاب وأغلقت القناة بعد أن كانت تمارس دورا إعلاميا مهما عبر عدد من البرامج ساهمت في كشف الكثير من قضايا الفساد والانتهاكات التي تقف خلفها أجهزة الدولة بكافة سلطاتها ومؤسساتها. كما نجحت أيضا في إبعاد قنوات فضائية أخرى عن البلدان العربية التي تبث إشارتها منها، نذكر على سبيل المثال قناتي الرافدين والفلوجة، اللتين هاجرتا مرغمتين إلى تركيا وعاودتا بث إشارتيْهما من هناك.

أحزاب السلطة أدركت مبكرا أهمية منصات التواصل الاجتماعي فأرادت أن تغرقها بالأصوات المؤيدة لها

مغردون أشباح

استكمالا لهذه الخطة أنشأت السلطة شبكة واسعة من المغردين الأشباح على موقعي فيسبوك وتويتر الذين لا يضعون صورهم الحقيقية ويختفون وراء أسماء وهمية، تم تعيينهم كموظفين بشكل رسمي في جهاز الدولة حيث اعترف حيدر العبادي في أول خطاب رسمي له بعد تسلمه منصب رئاسة الوزراء في نهاية عام 2014 بأن سلفه نوري المالكي قد عين أكثر من 5000 موظف بصفة إعلامي في المؤسسات التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، كانت مهمتهم الرئيسية تتلخص في الرد على كل الأصوات التي تنتقد سياساته. ولأن العبادي لم يكن صادقا في ما كان قد أعلنه من خطط لاجتثاث الفساد من أجهزة الدولة، ولربما لأنه أضعف من أن يلعب هذا الدور لكونه ترسا صغيرا في جهاز حزب الدعوة الحاكم، لم يتم الكشف عن أسماء هؤلاء الأشباح ولم تتم تعريتهم أو طردهم، ومازالوا حتى الآن بمثابة العصا التي تلوح بها السلطة في العالم الافتراضي لإخافة وتشويه أي صوت يتقاطع مع سياساتها الطائفية.

وفي بيئة اجتماعية مثل العراق غالبا ما تكون هنالك مسافة شاسعة لا يمكن التغاضي عنها تفصل ما بين الواقع والواقع الافتراضي، حتى وإن كانت مفردة “الواقع″ تشكل قاسما مشتركا بينهما، بل ويمكن القول بأنهما عالمان منفصلان، وبينهما نقاط تفارق وتقاطع لذلك لا يمكن أن يعكس أحدهما صورة الآخر. بناء على ذلك سيكون من الصعب على المراقب الخروج بنتائج دقيقة عن أي واحد منهما بالاعتماد على دراسة وتقييم الآخر.

حضور القوى التقليدية

مواقع التواصل الاجتماعي رغم أهميتها وتأثيرها لم تصل بعد إلى الدرجة التي أصبحت فيها أداة شائعة ومتداولة من قبل غالبية شرائح المجتمع، ويمكن القول بأنها مازالت نخبوية لا تتعدى فئة محدودة لا تمثل إلا هامشا بسيطا من فئات وشرائح المجتمع من حيث العدد والتأثير الاجتماعي إذا قورنت بالقوى التقليدية: القبيلة ورجال الدين.

سلطتا الخطابيْن الديني والقبلي مازالتا تحتفظان بأولوية في قائمة الروافد التي تصب في تكوين بنية مجتمعاتنا إلى الحد الذي لا تتمكن فيه أي قوة

فسلطتا الخطابيْن الديني والقبلي مازالتا تحتفظان بأولوية في قائمة الروافد التي تصب في تكوين بنية مجتمعاتنا إلى الحد الذي لا تتمكن فيه أي قوة، بما في ذلك القوى السياسية ومهما امتلكت من قاعدة جماهيرية وأجهزة قمعية، من منافستهما على مساحة الهيمنة والنفوذ، وما عليها إلاّ أن تنصاع وتتودد لهاتين السلطتين للحصول على رضاهما سعيا منها إلى أن تحيّد تأثيرهما، هذا إذا لم تستطع أن تكسبهما إلى جانبها.

في نفس الوقت علينا أن نأخذ بعين الاعتبار عوامل أخرى تلعب دورا في أن تكون لمواقع التواصل الاجتماعي هذه الأهمية لدى أحزاب السلطة منها ما يتعلق بشيوع نسبة الأمية في العراق بعد العام 2003 إلى مستويات خطيرة ربما تصل إلى أكثر من 40 بالمئة من مجموع السكان بعد أن كانت نسبتها 0 بالمئة قبل هذا التاريخ حسب ما أعلنته تقارير الأمم المتحدة آنذاك نتيجة الجهود التي كانت قد بذلتها الحكومة العراقية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي لمحو الأمية التي امتدت إلى جميع المدن والقرى وساهم فيها المئات من المعلمين والمدرسين. واليوم تعود الأمية في العراق إلى مستويات مرتفعة بشكل خطير بعد أن ساهمت أعمال العنف الطائفي في تدمير عامل الاستقرار الذي كانت ترفل بظله العائلة العراقية وسقطت في هوة النزوح والتهجير مما فرض حالة قطيعة ما بين الفئات العمرية الصغيرة والمدرسة.

وحتى الكبار من المتعلمين ما عادوا يجدون وقتا كافيا لمتابعة ما يجري على شبكات التواصل الاجتماعي بعد أن عصفت بحياتهم صعوبات ومحن كبيرة جعلتهم في حالة نفسية هي أقرب إلى اليأس والكآبة. هذا إضافة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة والحياة لدى قطاعات واسعة من المجتمع خاصة أولئك الذين لا يرتبطون بوظيفة حكومية من الحرفيين وأصحاب المهن والمشاريع الصغيرة.

الخلاصة أن الحسابات العراقية على موقعي فيسبوك وتويتر التي عادة ما تتطاير منها إساءات لفظية تعبر صراحة عن كراهية طائفية وعنصرية يختفي وراءها أشخاص لا يعبرون عن رأيهم الشخصي بقدر ما يعبرون عن رأي جهات أخرى، في مقدمتها أحزاب السلطة سعيا منها إلى قمع الأفكار والآراء التي تتقاطع معها أو تفضح سياساتها ولإشاعة مشاعر الخوف منها بين أوساط المغردين الفاعلين على صفحات هذه الشبكات وصولا إلى اللحظة التي ستضطر بعدها إلى التزام الصمت.

كاتب عراقي



© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>