جمعت اكاديميين وخبراء، ونوقشت خلالها المسائل المتصلة به، من جوانبها كافة: الاجتماعية، الاقتصادية، القانونية، والتقنية. وعليه، فقد انطلقت هذه الدراسة من رؤية حددت معالمها عبر مقاربة لواقع الحال، ومتطلبات بناء الثقة، وارساء قواعد مرنة تسمح بمواكبة تحديات الاختراقات السيبرانية، والحد من الخسائر، التي تترتب عليها.
كما تندرج أيضا، في اطار الاهتمام الدولي المتصاعد بالامن السيبراني، وما فرضه من تحولات طاولت الحياة اليومية للمواطن، بدءا من الممارسات الحكومية، وصولا الى العلاقات بين الدول انفسها، وجهود المنظمات الدولية والاقليمية، لاسيما منها الامم المتحدة، والاتحاد الاوروبي، ودول الكمنولث، وجامعة الدول العربية، بمختلف اداراتها وهيئاتها، فقد ترافق اعتماد الافراد على تقنيات المعلومات والاتصالات، في انجاز مختلف انشطتهم اليومية، من مهنية وشخصية، مع بروز عدد من التحديات، يأتي في مقدمها، عدد من الحقوق التي لا بد من مراعاتها وتنظيمها، ولتمكينه من ممارستها، ضمن اطار يمنع الاعتداء عليها، وعدد اكبر من المخاطر يفرض عليه، مسؤولية اتقان الاستخدام الآمن لهذه التقنيات، واولها الانترنت. ولا يقف الامر عند حدود المواطن الذي يستخدم هذه التقنيات، بل يتعداه الى تلك التي لا يستخدمها، وانما يتأثر بها بشكل مباشر، نتيجة استخدام الآخرين لها. فالمؤسسات في القطاعين العام والخاص، تدير شؤونها، اوشؤون المستفيدين من خدماتها، بالاعتماد على تقنيات المعلومات والاتصالات. والمثال البديهي الذي يساق هنا، هو سجلات المواطنين في الدوائر الرسمية، كالصحة، والاحوال الشخصية، والامن، والمعاملات التجارية والمالية، وغيرها الكثير.
فالانترنت، والبث الفضائي، والهواتف الجوالة، قنوات مفتوحة للاتصال وللمشاركة، في المساحات العامة، التي خلقتها الوسائل الجديدة، والتي ما زالت تتسع وتتمدد بشكل مستمر، مع توسع الشرائح والفئات التي تطاولها، ودفق المعلومات وتنوعها.وبالفعل، فقد فتحت هذه التقنيات الباب واسعا امام الكثير من الخيارات، التي لم تكن متاحة سابقا. فالهواتف الذكية، والتي انتشرت بسرعة في الدول العربية،تستخدم لمتابعة الأمور المتعلقة بالعمل،كما تستخدم للحفاظ على الاتصال الدائم بالأسرة والأصدقاء، ولتبادل المعلومات، والدردشة، والمشاركة في كل تفاصيل الحياة.
انتقل المواطن الى المشاركة في الحياة العامة، بوطنه، وبسواه، من خلال ابداء آرائه، ونشرها، والاطلاع على الاتجاهات العالمية، والاقليمية، والمحلية دون استثناء. فالمهارات المطلوبة لمستخدم الإنترنت، لا تتطلب كثيرا من الجهد، ولا تختلف عن تلك المهارات التي يحتاجها المهني الاعلامي او السياسي، او صاحب القرار. وغني عن القول، ما أوجده هذا الواقع من أزمة مفاجئة في تحديد المسؤوليات، على المستوى الاعلامي. فقد كاد كل مواطن يتحول الى اعلامي، ومراسل، بينما الاطار التشريعي، في معظم الدول، ما زال الاطار الذي يحدد مسؤوليات المهنيين، في الإعلام التقليدي.
وينطبق هذا الامر على الادارات الحكومية، التي أنشأت قواعد بيانات، تضم معلومات هائلة عن المواطنين والمقيمين، لادارة شؤونهم، وتسهيل وتقديم خدمات لهم، ذات جودة عالية، وبكلفة اقل، وتحسين علاقة المسؤول بالمواطن، وتوطيد الثقة بينهما. وقد لجأ العديد من الدول، الى الاعتماد على "الحكومة الالكترونية"، كأداة ناجعة للتحديث الاداري، وتسريع عجلة العمل، وملاقاة شروط الشفافية في ادارة الشأن العام، والمساءلة، والمرونة، والادارة الرشيدة، وكذلك لمكافحة الهدر، ومحاربة الفساد.
الان ان الاعتماد على هذه التقنيات، أسس لدفق هائل من المعلومات والبيانات، والتي تتوزع بين علنيةمن جهة، وسرية من جهة ثانية. وتتفاوت الدرجات بين ما هو سري، وحساس، وشديد الخطورة؛ ما طرح تحديات عديدة، ليس اقلها السهر على سلامة البيانات وأمنها، كما على امن الانظمة واستمرارية عملها، ومصداقيتها، تجاوبا مع المبادىء الادارية، التي تفرض، فيما تفرض، استمرارية المرفق العام بانتظام، ودون انقطاع، حفاظا على المصلحة العامة.
وعلى خط مواز، أسست البنية التحتية لتقنيات المعلومات والاتصالات، لحركة تدفق المعلومات عبر الحدود الجغرافية ببين الدول، محولة العالم الى قرية كونية صغيرة، ففرضت ثورة المعلومات التي أرستها، واقعا جديدا على السيادة الوطنية، الأمر الذي جعل الدولة تعاني من مشكلات أشد وأخطر، من تلك التي واجهتها من قبل. فالى مسائل الامن على الحدود، ومسائل الامن القومي التقليدية، برزت مشكلة السيادة على الفضاء السيبراني، وعلى العلاقات التي تحاك على الانترنت، بين أشخاص موجودين على أراض مختلفة، خاضعة لعدد من السيادات، حيث يختلف بلد مصدر العمل، وبلد تحقق نتائجه، والبلاد التي تمر عبرها البيانات. فالفضاء السيبراني، مكان مختلف، لكنه شديد الارتباط بالعالم المادي، وليس مستقلا عنه، كما اعلن بارلو في شرعة استقلال الانترنت، التي انتشرت بشكل واسع منذ العام 1996 .
فالتحديات التي يطرحها الفضاء السيبراني، مصدرها العالم الحقيقي، حيث الاشخاص والنشاطات التي تستخدم الانترنت، وترتكز اليه. وقد برز شبه اجماع دولي، حول اعتبار ما هو غير شرعي بمقتضى القوانين في العالم المادي، يبقى غير شرعي في الفضاء السيبراني، وذلك بمقتضى التشريعات الوطنية القائمة. وعليه، فان مبدأ سيادة الدولة، لا بد وان يحترم في هذا الفضاء. غير ان المسألة ليست بهذه البساطة، مع اختلاف القوانين الوطنية على تعريف ما هو شرعي وقانوني، وما هو غير ذلك، اضافة الى التعقيدات التي ترافق عملية تطبيق مبدأ السيادة الوطنية على المجال السيبراني، نظرا لطبيعته الخاصة. فقد بدأ هذا المبدأ، يسجل بعض التراجعات أمام حركة العولمة، والانفتاح غير المسبوق، بين الافراد كما بين الدول، في مختلف مجالات الحياة: من الاقتصاد الدولي إلى التجارة الإقليمية، والتعليم والترفيه، والتجارة الالكترونية.
اهدافها
تهدف هذه الدراسة، الى القاء الضوء على عدد من المفاهيم والمسائل، التي ترتبط بالامن السيبراني، عبر تشريحها، وتشخيص واقعها، ورصد أبعادها. وهي بذلك، تشكل اضافة الى المحاولات التي سبقت، وتضع بين ايدي الاكاديميين، وكذلك متخذي القرار، مادة تساعدهم على تكوين رؤية واضحة، وبالتالي اتخاذ القرار المناسب. لكنها، بالمقابل، لا تدعي الاحاطة، بكل المسائل، ذات الصلة، ولا تعتبر النتائج المستخلصة قاطعة ونهائية، لاسيما مع التغيرات المتواصلة والسريعة التي تطاول قطاع التقنيات والاتصالات.
تستند الدراسة، الى ما تم انجازه حتى اليوم على المستويين الاقليمي والدولي، والى جهود جامعة الدول العربية، في مجال ارساء قواعد الثقة والامان في الفضاء السيبراني، وذلك انسجاما مع دورها في وضع ما جاء من مبادىء، في مقررات القمة العالمية لمجتمع المعلومات، والتي انعقدت في تونس، عام 2005، موضع التنفيذ، حيث شددت جميع الوثائق، على اهمية الامن والاستقرار والثقة، في الفضاء السيبراني. وتقوم المنهجية المعتمدة، على ركائز: التحديد، والتحليل، والشرح، واقتراح خطوات عملية، تهدف الى استدراك المخاطر المستقبلية.
هذا وتتوزع المسائل التي سنعالجها، على العناوين الآتية:
- حوكمة الانترنت
- الامن السيبراني: التحديات ومستلزمات المواجهة
- المخاطر السيبرانية من الطوارىء الدولية
- الاعتداء السيبراني والجريمة السيبرانية
- تقنيات المعلومات والاتصالات في المجال العسكري
- الارهاب السيبراني
- مكافحة الجرائم السيبرانية: الاتفاقيات الدولية والاقليمية
- حماية البيانات ذات الطابع الشخصي والحق في الخصوصية
- المرونة السيبرانية في مواجهة المخاطر
- استراتيجيات الامن السيبراني
|