كذلك، أثرت تطبيقات العصر الرقمي في مكونات النظام الصحي، سواء فيما يتعلق بصنع السياسات الصحية أو التطبيقات الخاصة بها، والتي تهدف إلى الحفاظ على الصحة العامة وكفاءة عمل النظام الصحي الوطني، إلى جانب توافر الأطر التشريعية والتنظيمية ونظم الثواب والعقاب التي تحكم عملية سير العمل داخل النظام.
وتؤثر الرقمنة في تمويل النظام الصحي وطرق تعبئة الموارد وتوزيعها، والعمل على معرفة الاحتياجات الفعلية، وتعزيز الاستثمارات في المجال الصحي. وتساهم الرقمنة كذلك في إدارة المنتجات الطبيّة والأدوية والمخازن بفاعلية عبر قواعد البيانات وتطوير عملية تسجيل الأدوية ومراقبة جودتها، والتسعير المناسب للأدوية وتطوير الصناعات الدوائية. كما تساهم التطبيقات الرقمية في تحسين جودة الرعاية الصحية وتنظيمها وتحقيق التكامل داخل النظام الصحي بين مقدمي ومستقبلي الخدمة، والعمل على بناء القدرات والتدريب اللازم للموارد البشرية عبر المنصات الرقمية، وهو ما ينعكس على كفاءة الأداء والإنتاجية. كما تساعد "الرقمنة" الخاصة بالبيانات والمعلومات الصحية في تعزيز القدرة على صنع القرار، والقدرة على تحليلها وتصنيفها. كما تؤثر الرقمنة في كفاءة نظم التأمين الصحي الشامل من خلال تعزيز فرص المساواة في تقديم الخدمات الصحية، بجانب رفع كفاءة إدارة المنشآت الطبية ودعم قدرتها في مجال الاستجابة للتحديات المرتبطة بطلب الخدمة وتنظيمها.
من ناحية أخرى، تساهم الرقمنة في تسهيل الوصول إلى المواطنين في المناطق النائية، وتقديم الخدمات الصحية للمناطق كثيفة السكان عبر القدرة الفائقة على استيعاب الضغط الكثيف في طلب الخدمة. وآخرا، وليس أخيرا، فإن التوسع في الرقمنة في المجال الصحي يساهم في تقليل الطلب على رعاية الأمراض، حيث تتيح التطبيقات الصحية للأفراد التمكن من إدارة صحتهم بأنفسهم في حالة وجود التشخيص، وهو ما يؤدي إلى قلة الاعتماد على النظم الصحية وتخفيف الضغط عليها، وهو ما يمنح النظام الصحي القدرة على التفرغ لمواجهة الحالات والأمراض الأكثر خطورة.
بالإضافة إلى المزايا السابقة لرقمنة النظام الصحي، فإن هذه الرقمنة تساعد على تعزيز قدرة هذا النظام على مواجهة التحديات الصحية والاجتماعية، وتحسين قدرة المرافق الطبية على إدارة الأزمات، وتعزيز قدرات البحث والتطوير والإنذار المبكر عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يعزز بناء القدرات في مجال التنبؤ بالأمراض ومكافحتها والبحث عن علاجات مناسبة لها، والمساعدة في إجراء الاختبارات وعزل المصابين وتطبيق إجراءات الحجر الصحي والرقابة التقنية، وتوفير الخدمات الطبية والمستلزمات للمستشفيات. وتمتلك التكنولوجيا الرقمية القدرة على تثبيت استجابة فعالة من خلال الفحص عبر الإنترنت والخرائط في الوقت الفعلي للحالات المؤكدة، وتبادل المعلومات حول الحالات والعلاجات على وسائل التواصل الاجتماعي وتقديم الخدمات الصحية عن بعد.[1]
وتساعد تطبيقات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة التي يتم تحليلها في معرفة حجم ومعدلات الإصابة ومراكزها بما يساعد في اتخاذ الإجراءات الاحترازية على نحو أكثر دقة وسرعة لمواجهة الأوبئة واتخاذ الإجراءات الوقائية.
ويتم تعزيز دور الرقمنة في كافة مراحل مكافحة الأوبئة بدءا من عملية "جمع البيانات" والمعلومات حول طبيعة الوباء أو المرض، وهو ما يرفع الوعي حوله. ثم تلعب الرقمنة دورا في عملية "التشخيص" من خلال تحليل الحالات المحددة بسرعة (تقريبًا في الوقت الفعلي)، والتشخيص الذاتي، ومتابعة تطور الرعاية الصحية عبر الإنترنت. وتساعد أدوات التشخيص، مثل الأشعة المقطعية والأشعة السينية وغيرها المعالجة بالذكاء الاصطناعي في تعزيز قدرة المختصين على التمييز بشكل أسرع بين الأوبئة والأمراض. وتلعب الرقمنة دور أيضا في مرحلة "العلاج" والبحث عنه، وتحديد التسلسل الجيني، وهو ما يعد فرصة لفهم طبيعة المرض ومكافحته. ويساهم في تحقيق ذلك معالجة البيانات الضخمة Big Data والتقدم في أدوات التكنولوجيا الحيوية.[2]
وتلعب الرقمنة دورا في مرحلة "الرعاية الصحية عن بعد" من خلال توظيف الهواتف المحمولة والتطبيقات الرقمية في مكافحة انتشار العدوى، ومتابعة التزام المرضى بالإرشادات الصحية والعلاجية، وهو ما من شأنه حماية الكوادر الطبية من خطر الإصابة بالعدوى، بالإضافة إلى استخدام الروبوتات للتواصل مع المرضى وإدارة الأدوية ومراقبة الوظائف الحيوية. وساعدت الرقمنة في تعزيز فرص التعاون العالمي في المكافحة وتكوين التحالفات الدولية لمواجهة الآثار الاقتصادية على المجتمع الدولي. وتساعد الشبكات الرقمية في توفير منصات لتعزيز دور المجتمع المدني المحلي والعالمي في جهود المكافحة وتطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي، من خلال تقديم خدمات التعليم والعمل والترفيه عن بعد، إلى جانب تدريب الكوادر الطبية ونشر الوعي بالمعرفة الصحيحة، وتوفير منصات للتمويل والتبرعات والتطوع، وتبادل الخبرات والتجارب. وتقوم شركات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي بدور مهم في مجال التوعية، واستخدام الحواسب الفائقة في معرفة تركيبات الأدوية السابقة ومدى قدرتها على إيجاد علاج بديل.[3]
اتجاهات مختلفة
برزت عدة اتجاهات فكرية تحاول تفسير العلاقة بين الرقمنة وإدارة جائحة "كوفيد 19".
الاتجاه الأول، يرى أن الرقمنة لم تلعب بمفردها الدور الرئيسي في الوقاية أو إدارة الأزمة، بل كان الدور الأكبر لبيئة إدارة الأزمة، خاصة ذات صلة بالأبعاد الثقافية والسياسية، مثل طبيعة النظام السياسي والموقف من الحريات الفردية. ويقارن هذا الاتجاه بين إدارة الأزمة في الصين الشيوعية من جهة، وايطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة من جهة أخرى.
الاتجاه الثاني، يرى أن النظم السياسية السلطوية وموقفها من المعلومات والشفافية كان له تأثيره السلبي في القدرة على معالجة الأزمة؛ فالتكتم الصيني في البداية حول التحذيرات من الفيروس والتي أطلقها طبيب صيني عبر الشبكات الاجتماعية، أدى إلى كارثة حلت بالصين والمجتمع الدولي على حد سواء، وذلك رغم أن الرقمنة مكنت الصين لاحقا من السيطرة على الوباء. من جهة أخرى، مكنت سيطرة الصين على الشبكات الاجتماعية الوطنية من النجاح في التعبئة الجماعية بعكس الدور السلبي الذي لعبته في أوروبا، وأن النزعة السلطوية لدى الدول المتخلفة تكنولوجيا أثرت بالسلب على إدارة الأزمة، وذلك مع غياب الشفافية وهو ما أثر في معدلات الثقة والكفاءة في إدارة الأزمة. ويشير هذا الاتجاه إلى حالتي الصين وإيران في التعامل مع الأزمة.
الاتجاه الثالث، يرى أن الحكم على نجاح الرقمنة في مواجهة فيروس "كوفيد 19" يرتبط بالقدرة على التوظيف العلمي والبحثي للأزمة على حساب التوظيف السياسي أو الديني لها، ومواجهة انتشار التفكير التآمري مقابل التفكير العلمي، والتي تنعكس بالسلب على إدارة الأزمة وفاعلية المواجهة. ويشير أنصار هذا الاتجاه إلى انعكاس الصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين على مواقف ترامب من الأزمة.
الاتجاه الرابع، يميز بين درجة التقدم في رقمنة المجال الصحي في مقابل رقمنة باقي الخدمات والتطبيقات الأخرى، وأن عملية التفاوت بين كل منهما من شأنها التأثير على القدرة في إدارة الأزمات الصحية الناتجة عن فيروس "كوفيد 19".
الاتجاه الخامس، يرى أن درجة توظيف الرقمنة في مواجهة أزمة "كوفيد 19" توقفت ليس بالضرورة على موقف السلطة الحاكمة، بل على الحدود التي يفرضها وعي وتقبل الجمهور والمواطنين لطبيعة الأزمة من جهة، ولحدود تدخل الدولة للحماية من جهة أخرى، وأن استخدام الرقمنة في الرقابة على الأفراد والتجمعات لا يتعارض مع الخصوصية في مواجهة الأزمة حالما خضعت للرقابة التشريعية، وهو ما يبرز التباين في موقف سنغافورة والصين من تطبيقات الرقابة الرقمية.
الاتجاه السادس، يرى أن قلة الإصابات في البلدان الفقيرة أو النامية مقارنة بالدول المتقدمة لا تعكس الفجوة الرقمية بقدر ما تعكس درجات الانغلاق أو الارتباط بالمصالح الإقليمية والدولية والتي تفرضها العولمة، ووجود عوامل أخرى ذات طبيعة ديموغرافية.
الاتجاه السابع، يرى أن درجات نجاح الرقمنة في إدارة أزمة "كوفيد 19" ارتبطت بعوامل أخرى مثل حرية تداول المعلومات، والشفافية، والوعي الجمعي، ودرجة الثقة في الحكومة، ودرجة التقدم في التأمين الصحي، خاصة أن الأزمة فرضت حالة استثنائية غير مسبوقة مكنت من تفعيل حالة الطوارئ والتي تقرها جميع الدساتير في العديد من دول العالم وبغض النظر عن الخلاف بين النزعة السلطوية والنزعة الليبرالية.
دروس مهمة
لكن بشكل عام، وبعيدا عن تباين وتنوع اتجاهات الجدل حول دور الرقمنة في مواجهة الجائحة، تظل هناك مجموعة من الدروس المهمة، نوجزها فيما يلي:
- أهمية دور البنية التحتية المعلوماتية لاستيعاب ضغط الاستخدام في أوقات الأزمات وسرعه الإنترنت، خاصة تطبيقات الجيل الخامس.
- أهمية الدور الذي تلعبه التطبيقات الصحية في إعطاء المؤشرات العامة حول الصحة، سواء للمستخدم أو للجهات المعنية بالرعاية الصحية، وأهمية الضبط والحذر من التعامل مع المعلومات الطبية وتأمين البيانات الصحية الشخصية.
- أهمية الدور الذي تلعبه الشركات التكنولوجية، سواء من خلال حجم استثماراتها الضخمة أو من خلال مساعدتها للحكومة في إدارة الأزمة على الجانب المالي والإنساني والتطبيقي.
- في حالة إدارة الأزمات، خاصة ذات الطابع الوبائي، فإن الوعي لدى المواطن يمثل الركيزة الأساسية في النجاح، إلى جانب عنصر الثقة في أداء المؤسسات الحكومية المعنية.
- أن الاستثمار في العلم والمعرفة هو الركيزة الأساسية في خط الدفاع الأول في مواجهة الأزمات، بل والبحث عن حلول أيضا. هذا بجانب أهمية تعزيز الاستثمار في المجال الطبي بما ينعكس على انخفاض تكلفة العلاج وسهولة الوصول إلى المرضى، وسهولة النفاذ إلى الخدمة الصحية والعلاجية.
- أن قيم العمل والوقت والانجاز والتنظيم والتطوع هي قيم أساسية في نجاح المجتمعات في تحقيق أهدافها أو مواجهة تحدياتها.
- تصاعد دور الشبكات الاجتماعية باعتبارها المنصة الأكثر انتشار وتأثيرا في تعبئة الموارد وفي رفع الوعي وبناء القدرات في مواجهة الأزمات، خاصة الشبكات الوطنية.
- أهمية تطوير تطبيقات التعليم عن بعد كبديل ليس فقط للجامعات والمدارس وقت الأزمات، بل كخيار قادم تحت وقع اختلاف المهارات وارتباطها بسوق العمل، والتعليم الذاتي والتعليم المستمر الذي يفرض على الأجيال الجديدة الخروج من أسوار المدارس والجامعات.
- أهمية إعادة النظر في طبيعة الأنظمة الصحية ونظم الأمن الصحي، وأهمية مد التأمين الصحي الشامل، وهو ما يتطلب مشاركة البيانات والشفافية لتعزيز تعاون القطاع الخاص والمجتمع المدني مع الحكومة.
- أهمية التحول الرقمي في المجال الصحي بهدف تعزيز القدرات الوطنية في مواجهة الأزمات الصحية وإعطاء الفرصة الكاملة لمعرفة الاحتياجات والمطالب، إلى جانب أهمية بناء القدرات للكوادر الطبية والمرافق الطبية من اجل بناء نظام صحي وطني مرن وقادر على التعامل مع الأزمات.
- أهمية تحمل كافة الشركاء المسئولية إلى جانب الحكومة من القطاع الخاص والمجتمع المدني والرأي العام، ومراجعة وتحديث خطط الاستجابة للأزمات والطوارئ السيبرانية، وفهم أعضاء فريق إدارة الأزمة لدورهم ومسؤولياتهم، وتأمين كافة قنوات الاتصال، خاصة عند استخدام خدمات الاتصال عن بعد، والتأكيد على هوية الأشخاص الذين يقومون بوظائف حساسة، وتثقيف الموظفين والكوادر الطبية حول المخاطر السيبرانية.
*مدير المركز العربي لابحاث الفضاء الالكتروني
|