وهو الأمر الذي يطرح العديد من التساؤلات حول ماهية التغير في تأثير الإرهاب الالكتروني في الأمن القومي ؟ وهل يقصد به فقط الجماعات الإرهابية كفاعل من غير الدول أم ان انه ينطبق على الفاعلين من الدول ؟وما هي أنماط التأثير الجديدة للثورة الصناعية الرابعة على الظاهرة الإرهابية ؟ وكيف يمكن حوكمة العلاقة بين الأمن والرقمنة ؟ وكيف يمكن ترجمة ذلك في تطوير الاستراتجيات الوطنية للأمن السيبراني ؟ وأي مستقبل للإرهاب الالكتروني في ظل الخسائر الميدانية وجائحة كوفيد 19؟
التغير في بيئة الأمن القومي
حدث تغيير في مفهوم الأمن في ظل العصر الرقمي ،و ظهرت مصالح جديدة وأخطار سيبرانيه رديفة لها مع زيادة الاعتماد على الفضاء السيبراني في عمل البنية التحتية للمعلومات وتقديم الخدمات بل وكذلك في تراكم الثروة ، واثر ذلك على مفهوم الأمن القومي وتطبيقات سيادة الدولة ، وظهور مصادر للخطر و وفاعلين عابرين للحدود الدولية ،
وهو الأمر الذي فرض علي الدولة من جهة الانفتاح للتعاون مع الفاعلين من دون الدولة في الداخل والسعي إلي التعاون مع الخارج لتعزيز القدرات من جهة أخري لتعزيز أمنها السيبراني ،و لم تصبح وظيفة الأمن و الدفاع مقتصرة علي الدولة وفق العقد الاجتماعي لنشاتها بل أصبح هناك دور جديد للفرد والقطاع الخاص والمجتمع المدني في الدفاع وبخاصة إن تلك التهديدات لم تعد من الخارج إلي الداخل فقط بل من الداخل الى الداخل أيضا.
وفرضت تلك المتغيرات الجديدة أمام الحكومات والساسة في العديد من دول العالم إعادة تعريف دورها والبحث عن ممارسة سيادتها مرة أخرى.في ظل عملية التحول الرقمي التي تتجه اليها العديد من الحكومات للاستحواذ على مقدرات الثورة الصناعية الرابعة، [1]
وأصبح الأمن السيبراني رافد أساسي من روافد الأمن القومي ومن ثم أصبحت تتصارع العديد من الدول في سبيل الحصول على مستويات اعلي من تعزيز القدرات في مجال الدفاع أو الهجوم وذلك من خلال تبني استراتيجيات وطنية للآمن السيبراني، ولم يرتبط ذلك بالعمل على تحقيق أهداف أمنية او سياسية فقط بل بالعمل على حفظ فرص النمو الاقتصادي ، وفي ظل ترابط العلاقة بين الامن والاقتصاد في العصر الرقمي ،وانعكاس ذلك على الثقة في الإجراءات والسياسات المتبعة. [2]
و اثر الفضاء الالكتروني في تغير طبيعة وخصائص الأمن والقوة والصراع في المشهد الدولي سواء على المستوى النظري او التطبيقي،وأصبح له تأثيرات وشواهد واضحة في العلاقات الدولية،وتم ذلك عبر متغيرات ثلاث ،فيرتبط المتغير الأول ،بكون إن الأمن الالكتروني لم يقتصر فقط على بعده التقني بل تعداه الى أبعاد أخرى ،في ظل تراجع سيادة الدولة ، وتزايد العلاقة بين الأمن والتكنولوجيا بصفة عامة، خاصة مع إمكانية تعرض المصالح الإستراتيجية للدول إلى أخطار وتهديدات، وفرضت تلك التطورات إعادة التفكير في مفهوم "الأمن القومي للدولة"، والذي يعني بحماية قيم المجتمع الأساسية، وإبعاد مصادر التهديد عنها، وغياب الخوف من خطر تعرض هذه القيم للهجوم.ومن جهة اخرى فان تحول الفضاء الالكتروني الى ساحة عالمية عابرة لحدود الدول، جعل ذلك هناك ارتباط عضوي بين الأمن السيبراني الداخلي للدولة وامن الفضاء الالكتروني ،وهو ما يشكل أساس الأمن الجماعي العالمي، خاصة مع وجود مخاطر تهدد جميع الفاعلين في مجتمع المعلومات العالمي.
ويتعلق المتغير الثاني ،بجعل ذلك الفضاء الالكتروني يلعب دورا هاما في تعظيم القوة، أو الاستحواذ على عناصرها الأساسية في العلاقات الدولية، حيث أصبح التفوق في ذلك المجال عنصرا حيويا في تنفيذ عمليات ذات فاعلية في الأرض، والبحر، والجو، والفضاء، واعتماد القدرة القتالية في الفضاء الإلكتروني على نظم التحكم والسيطرة التكنولوجية.وساهمت "القوة السيبرانية"في تدعيم القوة الناعمة للدولة، حيث بات الفضاء الإلكتروني مسرحا لشن هجمات تخريبية ترتبط بنشر المعلومات المضللة، والحرب النفسية، والتأثير في توجهات الرأي العام، والنشاط السري والاستخباراتي.ومن جهة أخرى ساهم بروز هذا الاتجاه في زيادة إنفاق الدول على سياسات الدفاع الإلكتروني، وحماية شبكاتها الوطنية من خطر التهديدات، وبناء مؤسسات وطنية للحماية الإلكترونية.
وارتبط المتغير الثالث ،بعلاقة الفضاء الالكتروني ببروز أنماط جديدة من الصراع ، كمجال تنشأ فيه نزاعات بين الفاعلين المختلفين وتعبيرا عن تعارض المصالح والقيم سواء بين الفاعلين من الدول أو بين غير الدول ، ويأتي ذلك مع كون الفضاء الإلكتروني عابرا للحدود، وسهولة الدخول إليه،وهو الأمر الذي أدى الى اتساع دائرة الصراعات السيبرانية، وزيادة عدد المهاجمين والفاعلين ، وظهرت حالات الكر والفر لتعبر عن صراع ممتد وتعبيرا وكاشفا عن ما يجري في حقيقة الأمر على الأرض .وظهر من جهة اخرى صراع حول امتلاك أدوات الحماية والدفاع والهجوم وارتباط ذلك بحيازة القوة والهيمنة السيبرانية والتأثير السيبراني في المستويين المحلي والدولي.وذلك بهدف الحصول على مكاسب سياسية أو اقتصادية او تقنية او الاستحواذ على الأسواق التجارية العالمية.
تزاوج الرقمنة والإرهاب
على الرغم من العلاقة التاريخية بين التكنولوجيا والإرهاب إلا أنها اكتسبت إبعاد جديدة في ظل تطبيقات العصر الرقمي ، والتي على الرغم من حيادتها إلا أنها أخذت طابع ونمط استخدامها من ثقافة المستخدم وبيئته،والتي تشكل الأهداف التي تقف وراء ذلك. وكانت التنظيمات الإرهابية والمتطرفة الأكثر استفادة بقدرتها على التعبئة والحشد ، وذلك مع إضفاء الغطاء الديني على ذلك الاستخدام ، وهو ما كان من شأنه تعزيز عملية المزج بين مدلولات القوة المادية والقوة الروحية،وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ،والتي يكتسب الدين فيها دورا كبيرا في المجال العام ناهيك عن التنوع العرقي والمذهبي فى المنطقة،والتي تعد كذلك مرتكزا للصراع بين القوى الدولية على ثرواتها، وموقعها الجغرافي المتميز، وشهدت المنطقة معدلات غير مسبوقة في انتشار الانترنت فاقت بكثير قدرة البنية الثقافية والاجتماعية على امتصاص تحدياتها.
ولعبت الشبكات الاجتماعية ثم الهواتف الذكية دور المنصة الأبرز لخطاب تنظيم داعش والتنظيمات الأخرى مقارنة بجيل تنظم القاعدة والذي اعتمد على تطبيقات أخري مثل المواقع الالكترونية وغرف الدردشة والمنتديات والمدونات. وانعكس هذا التطور في تعزيز قدرتها على الانتشار والتفاعل ،والذي يترجمه حالة الانتقال من نموذج "البث"من الفرد إلى الفرد ثم من"بث"الفرد الى الكل ثم مرحلة"بث " الكل الى الكل.، وجاء ذلك مع تطور تقنيات معالجة المحتوى كالنص والصورة والفيديو،وهو الأمر الذي أنتج في الأخير ثورة في مجال النشر والمعالجة والتسويق و سهولة الانتقال من التأثير المحلي إلى الإقليمي ثم العالمي.
ومن جهة أخرى ذكت البيئة المحلية والإقليمية بعد ما عرف بـ"ثورات الربيع العربي" الصراعات بين التيارات المدنية والإسلامية المعتدلة من جهة، وما بين الجماعات المتطرفة من جهة أخري، وتحول ذلك الصراع الى الفضاء السيبراني، وبخاصة من قبل الجماعات الجهادية مثل القاعدة و داعش . وتميز ذلك الصراع بينها وبين الدول بالمزج بين البعد الأرضي"العسكري" إلى جانب البعد" السيبراني" ، وهو ما ساعد في تضخيم الصورة الذهنية لتلك الجماعات المتطرفة ، ونجاحها في تبني تكتيكات واستراتيجيات مكّنتهم من إقامة مشروع "دولة" على الأرض .ولم يأت ذلك فقط جراء نمو القدرات الذاتية لتلك الجماعات بل جاء كذلك من تلقيها دعما خارجيا من قبل قوى إقليمية ودولية عملت على توظيفها كأداة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية تجاه المنطقة.[3]
سلاح جديد في ساحةمفتوحة
أدت عملية التطور في التطبيقات الرقمية إلى هجرة المواقع الإلكترونية والمنتديات وغرف الدردشة والمدونات إلى تطبيقات الشبكات الاجتماعية والهواتف الذكية، والتي أحدثت بدورها تطوراً ملحوظا في الإستراتيجية الإعلامية للتنظيمات المتطرفة، وهو ما عمل على مضاعفة التأثير والانتشار وتضخيم الظاهرة الإرهابية في ظل عصر الشبكات الاجتماعية،
وأتاحت البيئة الرقمية الجديدة الفرصة إلى أن تتمكن الجماعات المتطرفة من تطوير أساليب جديدة وتكتيكات تساهم في تعزيز قدراتها السيبرانية ، وذلك من اجل توظيفها في مواجهة أعدائها وفي مخاطبة مؤيديها وفي مخاطبة الكتلة الصامتة من مستخدمي تلك التطبيقات الرقمية من الشباب وبخاصة أنهم الأكبر استخدما لها وأكثر معاناة في نفس الوقت من الظروف الاقتصادية .
وقامت تلك التنظيمات المتطرفة بتوظيف الشبكات الاجتماعية في تطوير استراتيجيات التأثير والإقناع، وجاء ذلك في نجاحها في تجنيد الشباب ، والاستفادة من الثورة الرقمية على الرغم من الاعتقاد الشائع بأنهم ضد الحداثة ، و نشر خطابهم عبر الشبكات الاجتماعية. ولم تتوقف عند ذلك بل اتجهت الى امتلاك تكتيكات تمكنها من الوصول الى أهدافها وتعزيز قوتها السيبرانية عبر وسائل عدة منها ما يتعلق بتنمية معارفها الذاتية بالتقنية، أو باكتساب عناصر محترفة في مجال التأمين والاختراق والتشفير، أو بضم عناصر من القراصنة مقابل المال أو باستخدام برامج للحماية المتوافرة والمتداولة، أو باستخدام الألعاب الإلكترونية، أو باستخدام اتصالات عبر الأقمار الصناعية.، واستخدام العملات المشفرة في التمويل والتهرب من المراقبة ،[4] وتلقت تلك الجماعات الإرهابية عبر الفضاء السيبراني دعما من المؤيدين سواء في محل الصراع أو من مؤيدين عبر الحدود عبر المجال السيبراني،والذين رأوا أن مشاركتهم تعد جهادا مقدسا الى جانب المشاركة الفعلية في ميدان الصراع، أو عبر جذب المقاتلين الأجانب على ارض الصراع .
وفيما يتعلق باستراتيجيات التنظيمات الإرهابية في عمليات التجنيد والتعبئة عبر المجال السيبراني، فعملت على تنمية مهاراتهم وبخاصة في مجال تحرير الفيديوهات والمؤثرات الصوتية والإخراج الفني، والعمل على اختيار المنصات الرقمية الأكثر أمناً، وبناء القدرات في مجال التدريب حول تأمين الاتصالات وتشفيرها، واعتماد سياسة الكر والفر في استخدامات تلك التطبيقات الرقمية من خلال إعادة تنشيط الحسابات كلما تعرضت للاختراق أو الوقف من قبل الشركة المشغلة، او بالتوجه إلى أقل التطبيقات الرقمية مراقبة من قبل الأجهزة الأمنية ،او عبر استخدام الانترنت العميق او المظلم[5] .
وهو الأمر الذي ضاعف من قدرات شن الحرب النفسية، والتمويل، وجمع التبرعات وهو ما انعكس على نمو قدرات تلك التنظيمات على المستوى التنظيمي والميداني والإعلامي إلى الحد إلى انتقالها من ظاهرة محلية إلى أن تكون إقليمية ثم ظاهرة عالمية في اقل وقت وجهد وتكلفة.
تكتيكات التأثير السيبراني
تمارس الجماعات الإرهابية تكتيكات للتأثير السيبراني و ذلك عبر؛ أولاً: القيام بهجمات رقمية الطابع عبر وسيط الفضاء الإلكتروني، حيث يتم شن عمليات التدمير والهجوم إلكترونياً. وثانياً: أن يكون الفضاء الإلكتروني عاملاً مساعداً في العمل الإرهابي عن طريق تسهيل الحصول على المعلومات والتنسيق والتجنيد والتعبئة وغيرها. وثالثاً: يتمثل في العمل على شن الحرب النفسية ونشر المعلومات المضللة والكراهية الدينية
وتتم عملية التجنيد عبر الشبكات الاجتماعية عبر ثلاث مراحل أساسية، تتعلق الأولى؛ بمرحلة التأثير الوجداني، من خلال إثارة العاطفة والنعرة والغيرة الدينية بحجة الدفاع عن القيم المقدسة الدينية أو البحث عن عالم مثالي لا يمت للواقع بصلة كفكرة "الخلافة" أو "المدينة الفاضلة"، ويتم توظيف النصوص الدينية عبر الوسائط الإعلامية .
المرحلة الثانية؛ ترتبط بالتأثير المعرفي عن طريق دور الشبكات الاجتماعية في نقل المعلومات والبيانات التي تعبر فقط عن وجهة نظر الجماعات الجهادية. وفي تلك المرحلة تتحول الصفحات والحسابات على شبكات التواصل إلى بوق للتطرف ونقل وجهات النظر الأحادية تجاه الآخر.
المرحلة الثالثة؛هي أخطر المراحل؛ لأنها تعمل على تحويل الفكر إلى سلوك عن طريق التغيير السلوكي لدى المنتمي، وأن يتحول من مجرد متعاطف إلى فاعل، والمشاركة الفعلية في التغيير بالقوة والعنف، وهو ما يظهر في التغيير السلوكي، وهي مرحلة تتم عبر المشاركة في أرض القتال الفعلي، أو القيام بعمليات انتحارية بعد عملية التعرض لغسيل المخ تحت دعوى رفعة الجماعة والانتقال إلى العالم الأفضل
تحديات وفرص المواجهة
تواجه جهود مواجهة الإرهاب والتطرف عبر الشبكات الاجتماعية تحديات مبعثها طبيعة تلك المواجهة ومنصاتها، والتي ترتكز على أساس كونها حرب عقول يعلو بها الجانب الإبداعي عن المعرفي، والبعد الفردي عن البعد الجماعي، وتسيطر عليها القدرة على المبادأة و الاستعداد، وقدرة تلك الجماعات المتطرفة على الالتفاف على المراقبة والتعقب، وتأمين تواصلهم.
يضاف إلى ذلك كله، الطبيعة السرية للتطبيقات الالكترونية لتحفيز نمو النشاط الإرهابي، وقيام الشركات المشغلة بتشفير الاتصالات، وهو ما يشكل عقبة أخرى في التتبع والرقابة من قبل الأجهزة الأمنية، فضلا عن ضعف قدرة الدول للضغط على الشركات التكنولوجية الكبري، والتي تغولت على سيادتها، إلى جانب تحدي مواكبة القانون والتشريعات للتطور التكنولوجي المتسارع.
. وأصبحت تواجه تلك التنظيمات تحديات مع حالة الخسارة الميدانية في مجال إعادة إنتاج خاطبها المتطرف بحثا عن ارض جديدة لإطلاق مشروع جديد للخلافة ولعل سيطرة طالبان على أفغانستان ربما سيعمل على إنعاش تلك الجماعات المتطرفة مرة اخري عبر الفضاء السيبراني من اجل التعبئة لمشروعها في إقامة الدولة الإسلامية ،والانتقال من حالة الانحسار عسكريا الى الانتشار سيبرانيا في انتظار الفرصة لاستغلال المناطق الرخوة للعمل على الأقل على إثبات الوجود بدلا من نفيه .
وعلى الرغم من عدم تواجد بيئة محفزة لنمو نشاط الجماعات الإرهابية في الفضاء السيبراني نتيجة لخسائرها الميدانية على الأرض فان جائحة كوفيد 19 قد كشفت من جهة اخرى عن محاولة تلك الجماعات الإرهابية إعادة إنتاج نفسها مرة اخرى ، وبخاصة استغلال العزلة الاجتماعية كإجراء احترازي ضد تفشي الوباء.و توظيف اتساع دائرة التعرض لتأثيرات الإنترنت في إعادة نشر الخطاب المتطرف، ومحاولة استغلال حالة عدم اليقين في بث المعلومات والأخبار المضللة. ،[6]
وفيما يتعلق بمستقبل تلك التنظيمات المتطرفة وخطابها عبر الشبكات الاجتماعية يمكن القول إنه بعد خسارة تنظيم داعش ما يزيد على 95% من الأراضي التي استحوذ عليها في سوريا والعراق، حدث انحسار ميداني للتنظيم على الأرض، إلا أن التنظيم الإرهابي وغيره ربما يتجهون إلى مناطق أخرى للبحث عن أرض جديدة، وهي تلك الفكرة التي فعلها من قبل تنظيم القاعدة، بعد فشله في إقامة دولته في أفغانستان، حيث اتجه إلى العراق، أو من خلال سعيه من جهة أخرى إلى العمل على إحياء الخلايا النائمة في مناطق رخوة أخرى.
ورغم ذلك لا يعد هذا سندا استراتيجيا للتنظيم، بل مدعاة لنقل الحرب بسهولة للجيوب الضيقة التي يحاول أن ينشط بها، وبخاصة مع التوافق الدولي ضده. وهو ما يكشف أن الانحسار الميداني على الأرض صاحبه كذلك انحسار في الفضاء السيبراني ، ويرجع ذلك الى ، أن التغير الحادث في سياسات شركات الشبكات الاجتماعية في مكافحة التطرف والعنف وتبني سياسات جديدة للتعامل مع المحتوى الخاص بالجماعات الارهابية والمتطرفة ، وقيام تلك الشركات الكبري بتشكيل مجلس عالمي لمكافحة التطرف، إلى جانب حالة الارتفاع في الوعي لدى المستخدمين بخطورة مشاركة المحتوى المتطرف.
ومن جهة أخرى فقد أصبحت الشركات التكنولوجية في مواجهة ضغط مستمر من الحكومات لتعزيز سياستها لمكافحة التطرف، وهناك حالة من التقدم من جانب العديد من الدول في مجال تنظيم استخدامات الشبكات الاجتماعية عبر تبني قوانين لمكافحة الإرهاب والجريمة الإلكترونية، وهو الأمر الذي سيعمل على الحد من النشاط الإرهابي ومروجيه،
ومن جهة ثالثة، انتباه العديد من المؤسسات الثقافية فى دول كثيرة لتبنّي سياسات نشطة للترويج للفكر المعتدل والتسامح، والذي من شأنه أن يساهم في سد الثغرة التي تركت الساحة أمام تمدد واختطاف التيار المتطرف للشباب من الكتلة الحرجة.
ورغم ذلك هناك فرص أخرى أولا، لاعادة النشاط السيبراني للجماعات الارهابية لتعويض خسارتها الميدانية على الارض ومحاولة اعادة مشروع جديد لها وهو ما ظهر في حالة استغلالها لجائحة كوفيد 19 وثانيا ، ان الوجود السيبراني للجماعات الارهابية لم يخفت بل أصبح غير مرئي نتيجة سياسات الرقابة من قبل الشركات العاملة في مجال الشبكات الاجتماعية ، وثالثا ، ان تطور سياسات التشفير سواء من قبل الشركات التقنية كسبيل لحماية الخصوصية قد يوفر الملاذ الامن لنشاطهم واتصالاتهم ، رابعا ، ان عملية التحالف بين الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة قد يحمل اي نشاط اجرامي يمكن ان يتحول الى نشاط إرهابي ، وبخاصة في ظل التحالف بين من يبحث عن المال او من يبحث عن التاثير السياسي . [7]
نحو استراتيجية مستدامة
أن أي إستراتيجية ناجحة لمكافحة الإرهاب والتطرف، يجب أن ترتكز على العمل على الموازنة بين الحرية والأمن، وبين استخدام القوة الخشنة والقوة الناعمة، وأن ترتكز كذلك على التعاون بين الداخل والخارج. كما يجب أن تنتقل تلك الإستراتيجية من بعدها الوطني إلى البعد التحالفي – الدولي، في ظل معركة عابرة للحدود وفي معركة يسيطر عليها الاستحواذ على العقول والقلوب قبل السيطرة على الأرض.
وياتي هذا بعد ان أصبح الامن السيبراني جزء من الأمن القومي ، والتغييرات التي احدثها فيما يتعلق باختلاف حدود الامن ووسائل الحماية وطبيعة الدفاع والهجوم والردع في الفضاء السيبراني ، وهو أمر يفرض اهمية تبني إستراتيجية شاملة للحماية من التهديدات السيبرانية سواء من جانب الجماعات الإرهابية كفاعل من غير الدول او تلك المخاطر التي تاتي من جانب الدول والتي تستخدم الفضاء السيبراني كمنصة للهيمنة وإدارة نشاطاتها السرية ضد الدول الاخرى ، وياتي هذا الى جانب أهمية ان يتحول الفضاء السيبراني الى فرصة كذلك للدفاع عن المصالح القومية سواء عبر الجهود التي تقوم بها الدولة او من قبل كافة الفاعلين من المجتمع المدني والقطاع الخاص والأعلام،ويأتي الى جانب ذلك وعي المواطن كركيزة للحماية والدفاع ضد المخاطر السيبرانية .
وياتي الى جانب ذلك اهمية تبني استراتيجية وطنية للنهضة العلمية والتقنية وتوظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الردع والدفاع السيبراني كمواجهة الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة كجزء من الحروب النفسية .
وعلى الرغم من الاعتقاد الشائع بوصف "الارهاب الالكتروني " لعملية استخدام الجماعات الإرهابية للفضاء السيبراني ، الا ان واقع الحال يشير الى امتداد هذا المفهوم الى فاعلين اخرين من غير الدول مثل دور الشركات التقنية في التجسس او انتهاك خصوصية المستخدمين ،او من خلال استخدام دول ذات سيادة للمنصات الرقمية كسبيل للرقابة والتجسس ودعم المعارضة والتدخل في شئون الدول الاخرى ، الى جانب الدعم والتدريب والتمويل عبر الفضاء السيبراني ، ومن ثم فان وصف "الحروب السيبرانية" قد يتم استبدالة بعمليات المعلومات او الارهاب السيبراني وهذا ينتج من طبيعة تنفيذ هذه العمليات والتي تعتمد على الكر والفر وعلى عدم اليقين بشان موعد شنها او باختلاف خصائصها عن تلك المرتبطة بالحرب بالمفهوم التقليدي.
وتساهم عملية تبني استراتيجية وطنية للامن السيبراني في مساعدة صانعي القرار وصياغة السياسات العامة للدولة،والتي تعبر عن عملية طويلة لتعزيز القدرات في مجال الامن السيبراني ، وتستهدف كذلك العمل على تحديد الرؤية والأهداف والمبادئ والأولويات التي تحدد طرق معالجة الدولة لقضية الأمن السيبراني ؛والعمل على دعم مشاركة أصحاب المصلحة في عملية دعم الأمن السيبراني وتحديد الادوار والمسؤليات ؛ ووصف للخطوات والبرامج والمبادرات التي ستعتمدها الدولة لحماية بنيتها التحتية الإلكترونية الوطنية ، والعمل على ان تتسم بقدر كبير من زيادة الأمن والمرونة.[8]
واما على المستوى العالمي فقد اصبحت عملية دمج العديد من اصحاب المصلحة تاتي في اطار مراعاة الابعاد الاقتصادية،والتي مثلت مدخل مهم لفهم الحوافز التي تحرك الفاعلين من الدول ، في ظل مراعاة البعد العابر للحدود للتهديدات السيبرانية
وبخاصة مع وجود دعم من بعض الدول للجماعات الإرهابية وهو ما يجعلها تتحمل المسئولية عن الامن الدولي ، وان عملية التوتر بين القوى الدولية ينعكس على الصراع على الارض من جهة ثم ينتقل الى الفضاء السيبراني من جهة اخرى ،
واذا كانت الاستراتيجيات الكبرى في الماضي كانت تهدف إلى "كسب السلام" كما في نموذج الحرب الباردة فإن هذا العصر يملتئ بالمخاطر التي تستهدف الامن الجماعي الدولي ومن ثم نحن بحاجة الى البحث عن "السلام السيبراني"،والانتقال من الفوضى الى التنظيم ومن الحقوق الى الواجبات من اجل مجتمع اكثر رخاءا واستقرارا ,وان يكون الفضاء السيبراني منصة للتقدم الاساني وليس اداة للتدمير والتخريب المادي والمعنوي . ولعل العقد الجديد يشهد انحسار الموجة الإرهابية وعودة الدولة الوطنية من جديد وفق شروط جديدة تواكب تلك المتغيرات التي فرضتها تحديات وفرص العصر الرقمي.
[1] Klaus Schwab, The Fourth Industrial Revolution: what it means, how to respond",Global Agenda, World Economic Forum, 14 Jan 2016.https://goo.gl/GdCYWk ,visted 2/11/2021
[2] Mark Schlesinger, A Growing Digital Economy Means More Cybersecurity Challenges, Forbes, Nov 30, 2020,shorturl.at/rsMRS ,visited 27/11/2021
[3] د. عادل عبد الصادق، الفضاء الالكتروني والعلاقات الدولية : دراسة في النظرية والتطبيق "، الطبعة الثانية ، مكتبة الاسرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، وزارة الثقافة ، 2017 ، ص ص 20-23
[4] Cynthia Dion-Schwarz, David Manheim, Patrick B. Johnston, Terrorist Use of Cryptocurrencies,Technical and Organizational Barriers and Future Threats, Santa Monica, CA: RAND Corporation, 2019.pp7-21.shorturl.at/ensAU,visited 22/11/2021
[5] Aditi Kumar and Eric Rosenbach, The Truth about the Dark Web, INTERNATIONAL MONETARY FUND.,FINANCE & DEVELOPMENT, ( VOL. 56, NO. 3, september , 2019),pp 1-4
shorturl.at/jksB9,visited 20/11/2021
[6] Michael King and Sam Mullins, OVID-19 and Terrorism in the West: Has Radicalization Really Gone Viral?, Just Security, March 4, 2021. shorturl.at/lCTVX visited /11/2021
[7] Stop the virus of disinformation: the malicious use of social media by terrorist, violent extremist and criminal groups during the COVID-19 pandemic, United Nations Interregional Crime and Justice Research Institute (UNICRI),November2020,pp6-15,shorturl.at/chvwD visited 2/11/2021
[8] National Cybersecurity Strategies Guidelines & tools, the European Union Agency for Cybersecurity, publications December 07, 2020, shorturl.at/nzCG6, visited 12/11/2021
|