الذكاء الاصطناعي وآفاقه المستقبلية

22-05-2023 07:23 AM - عدد القراءات : 2365
كتب د. عادل عبد الصادق * المقال منشور ضمن العدد رقم 105 من دورية "الملف المصري" الإليكترونية،مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراييجية مايو 2023.
بين القلق والتفاؤل تراوحت مشاعر الملايين عبر العالم إزاء غزو تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتي باتت من أهم محركات الثورة الصناعية الرابعة وما بعدها، ودخولها على نحو أكثر سرعة عن ذي قبل في كافة المجالات، سواء كانت ذات طبيعة مدنية أو عسكرية. ومن ثم، انقسمت الرؤى ما بين أن هذا الغزو التكنولوجي يساعد في حركة ووتيرة التقدم البشري، وبين سيطرة الذكاء الاصطناعي على وعي وإدراك الإنسان والتهديد بالتفوق عليه. إلا أن كلتا الرؤيتين اتفقتا على الفرص المتاحة لتلك التطبيقات في حل المشكلات والتوظيف الأمثل للقدرات والموارد ودورها غير المسبوق في صناعة الثروة والسلطة والنفوذ. وهو الأمر الذي دفع إلى تنافس مبكر ما بين شركات التقنية الكبرى من جهة، والقوى الكبرى من جهة أخرى، في ظل الوعي المتصاعد بدور تطبيقات الذكاء الاصطناعي في إعادة هيكل القوة في النظام الدولي.
الذكاء الاصطناعي وآفاقه المستقبلية

في سياق ما سبق تحاول هذه المقالة استشراف مستقبل تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والثورة الصناعية الرابعة وما بعدها، كمحاولة للتنبوء بتأثيراتها، من أجل بناء سياسات بديلة في المستقبل تعزز من الفرص الممكنة، وتقلل من المخاطر والتحديات.

أولاً: تقدم من الماضي نحو المستقبل

على مدار التاريخ لعب العلم والتكنولوجيا دورا مهمًا في تقدم الحضارة الإنسانية منذ اكتشاف الإنسان للنار، وهو ما يزال يبحث عن المعرفة والقوة والرفاهية باعتماده على ذكائه الذي يميزه عن باقي الكائنات الحية.

ومن ثم، أصبح الابتكار والإبداع والاختراع سبيلاً للتغيير وإحداث طفرات تاريخية، سواء في التصنيع أو الإنتاج أو النقل أو غيرها. ففي القرن الثامن عشر جاءت الثورة الصناعية الأولى لتشكل نقلة نوعية بالانتقال من الفحم إلى المحرك البخاري، وجاءت الثورة الصناعية الثانية في نهاية القرن التاسع عشر لترتكز على اختراع الكهرباء، وفي الستينيات من القرن العشرين تم إطلاق الثورة الصناعية الثالثة، والتطور في تكنولوجيا الكمبيوتر والإنترنت.

وجاء القرن الحادي والعشرون ليشهد طفرة هائلة في التقدم التقني، وكان من إرهاصاتها “الثورة الصناعية الرابعة»، والتي تشير إلى «عملية الدمج بين العلوم الفيزيائية أو المادية بالأنظمة الرقمية والبيولوجية في عمليات التصنيع عبر آلات يتم التحكم فيها إلكترونيًا وآلات ذكية متصلة بالإنترنت مثل إنترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد، والذكاء الاصطناعي والروبوتات وغيرها في شكل تطبيقات تدخلت في كافة مجالات الحياة والعمل.

وأصبح لتلك الثورة الجديدة تأثيرات على مستوى الإنتاج وأسواق المال والأعمال والاقتصاد إلى جانب التأثيرات العلمية والصحية وغيرها. كما دفعت الثورة الصناعية الرابعة إلى تقليل الفارق الزمني بين الجانبين النظري، والتطبيقي.

وأصبحت تطبيقات الذكاء الاصطناعي تعتمد على معالجة البيانات الضخمة عبر الخوارزميات، وهي التي تضع المعادلات التي تصنف تلك البيانات، وتحولها من شكلها الخام إلى موارد ومصادر قابلة للإنتاج والتسويق.

وتعد تطبيقات الذكاء الاصطناعي من أعمدة الثورة الصناعية الرابعة، وكان من أبرزها مشروع أنظمة الجيل الخامس من الكمبيوترات، والذي هدف إلى تطوير نظام حاسب آلي يستطيع التحدث بلغة الحوار، ويمتلك قدرة على التفكير، وقد استمر ذلك حتى تسعينيات القرن العشرين.  

وتحولت  قدرات  تطبيقات الذكاء الاصطناعي من مجرد آلات  تتلقى  المدخلات وتنتج المخرجات بدون امتلاك ذاكرة، إلى ظهور جيل آخر يعتمد على امتلاك ذاكرة محدودة، ثم جيل جديد يعتمد على إدراك وجود البشر وكيانات أخرى، ثم جيل أكثر تقدمًا تم تطويره  يسمى بآلات الوعي الذاتي التي تدرك وجودها وهويتها.

وتساهم  تطبيقات الذكاء الاصطناعي في معالجة كل من: اللغات وتفسيرها وترجمتها بسرعة فائقة، واستخدام الروبوتات في المجالات الطبية، والزراعية والصناعية وغيرها. وتأتي تلك المتغيرات في ظل تصاعد ثلاثة عوامل: أولها، العولمة التنافسية التي تفرض على الشركات أن تعزز مواردها بشكل مستمر، لتمكن منتجاتها من الاستحواذ على الأسواق. ثانيها، الابتكارات الرقمية التي تسمح للشركات والمؤسسات بجمع البيانات في الوقت الحقيقي. ثالثها، ظهور نمط جديد من المستهلك الرقمي المتعلم الذي يطالب بمنتجات متزايدة على المستوى الشخصي بما يضمن ضخامة السوق.

ثانيًا: من تعلم الآلة إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي

كان، ومازال، الإنسان يتمتع بالإبداع والقدرة على التفكير والكتابة واللغة وممارسة الفن وغيرها من الأنشطة التي ميزته عن غيره من الكائنات على سطح الأرض، إلى أن جاءت تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتضيف  دورًا جديدًا لها، يزاحم هذه المهن وتلك الوظائف. والتي منها صناعة المحتوى والصورة والحديث وتكوين شخصيات رقمية بشكل بشري. وجاء ذلك مع التطور الضخم في البنية التحتية الرقمية مثل: الألياف البصرية والهواتف الذكية وتطور شبكات الجيل الخامس والسادس.

 

 

ومن جهة أخرى، أدت ضخامة البيانات والمعلومات إلى الاتجاه إلى الاختزال والتبسيط والتنميط، وتلعب الخوارزميات دورًا في ذلك، بالإضافة إلى التقدم في مجال تطبيقات «التكنولوجيا العصبية»، وتطوير الخوارزميات لترجمة نشاط الدماغ بناء على الشعور والرؤية والتخيل والتفكير. وهو ما ارتبط  كذلك بالتطور البيوتكنولوجي في عمليات تحرير الجينات وإدخال التقنية في وظائف الجسم.

ويركز تعلم الآلة على منح الآلات والحواسيب القدرة على التعلم دون أن تتم برمجتها عبر خوارزميات تستطيع أن تتعلم ذاتيًا، وتصنع التنبؤات بخصوص البيانات دون تدخل بشري. ويعد التعلم العميق هو أحد فروع تعلم الآلة، ويتم فيه تصميم الخوارزميات المستخدمة لمحاكاة بنية ووظيفة الدماغ البشري، ويطلق عليها اسم «الشبكات العصبية الصناعية». وظهر الذكاء الاصطناعي التوليدي لتوليد المخرجات بناء على عمليات المدخلات، وإتاحة الفرصة لإنشاء المحتوى وفق رغبات المستخدمين، وليس فقط الاعتماد على محركات البحث التقليدية.

ويعد ذلك تطورًا تقنيًا فارقًا يقابل في تأثيره انتشار تطبيقات الشبكات الاجتماعية، مثل برنامج "ChatGPT". وتوالى بعد ذلك ظهور جيل رابع منه أكثر تقدمًا، والذي طورته شركة "OpenAI" وغيرها من التطبيقات التي أعلنت عنها عدد آخر من شركات التقنية. وتعتمد تلك التطبيقات على نطاق تعلم عميق متعدد الوسائط يقبل مدخلات الصور والنص، وتنبعث منه مخرجات نصية كما أحدث ثورة في صناعة المحتوى.

وعلى الرغم من أن هذا الجيل من التكنولوجيات يُعد أقل قدرة من البشر في العديد من سيناريوهات العالم الحقيقي، فإنه يعرض أداء على مستوى الإنسان في مختلف المعايير المهنية والأكاديمية. وفتح فرص أمام الإبداع والاكتشافات العلمية، ويسمح للبشرية بتحقيق مآثر لم يكن من الممكن تصورها من قبل.

ووجهت العديد من الشركات المليارات من الدولارات في الاستثمار في تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وأثار ذلك تنافسًا بين الشركات الأمريكية ذاتها في وادي السليكون من جهة، وإلى تنافس شركات دولية أخرى جانب «ميتا» و«مايكروسوفت»، ومثل الشركات الصينية كـ «علي بابا»، و«بيادو»، و«تنسنت» وغيرها، وتطبيق ذلك في القيام بوظائف ومهارات كان يقوم بها البشر من قبل، مثل فهم ومعالجة البيانات، والتواصل عبر اللغة والترجمة، والتعرف على الأشياء والوجوه وغيرها، والقدرة على التعلم من الماضي والتنبؤ بالمستقبل.

وتراوحت تطبيقات الذكاء الاصطناعي ما بين الأربعة أوجه المعروفة: أولها، طريقة التعلم الموجه عبر الخوارزميات، للمساعدة في التصنيف لعمليات المعلومات. وثانيها، طريقة التعلم غير الموجه لتجميع البيانات أو استنباط الخواص واكتشاف هيكلة الأشياء. وثالثها، التعلم المعزز، عبر التعلم من الأخطاء في كل مرة للوصول إلى الإدراك الكامل للمشكلة وحلها. ورابعها، التعلم العميق، ومحاكاة عمل الشبكات العصبية لدى الإنسان، بحيث تتعلم الآلة دون قواعد سابقة .

 

 

ثالثًا: الذكاء الاصطناعي وفرص جديدة للنمو الاقتصادي

يعد الذكاء الاصطناعي أحد مجالات الإبداع المهمة لتحقيق «السيادة الرقمية» والازدهار الاقتصادي، وهو الأمر الذي دفع العديد من الشركات لتغيير استراتجياتها للاستحواذ على ما يعد فرصة مهمة لتوفير بنية تحتية للنمو الاقتصادي بعد حالة التضخم التي يشهدها الاقتصاد العالمي. ويتوقع أن تساهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في ارتفاع نمو الناتج المحلي العالمي بنسبة تصل لـ 14 % عام 2030، أي بنحو 16 تريليون دولار.

ودخلت تطبيقات الذكاء الاصطناعي في خدمات البيع بالتجزئة والجملة والتصنيع والخدمات الاحترافية والعامة والمعلومات والاتصالات والخدمات  المالية والبناء، والرعاية الصحية والنقل والتخزين، والإقامة وخدمات المطاعم، وتأليف الموسيقى والترفيه، وقراءة النص، بالإضافة إلى الوظائف التقليدية له كتصنيف البيانات والمعلومات وتحليلها والتنبؤ ببعض الظواهر، ورسم المخططات وتشخيص الأمراض، وفي تحسين تطبيقات التعليم والتعلم عن بعد، والروبوتات والعربات الذاتية القيادة. ومن ثم، اتسع المجال للقيام بخدمات تعليمية وصحية وثقافية وإعلامية وغيرها. وتساهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تغيير الوظائف وظهور وظائف جديدة.

 

 

وتحتاج عملية التقدم في تبني تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى وجود ضوابط تنظيمية يكون من شأنها تعزيز الثقة وتشجيع التمويل والاستثمار في تطبيقات الذكاء الاصطناعي. ويرتكز مؤشر الذكاء الاصطناعي العالمي على 143 معيارًا موزعًا على سبع ركائز، هي: المواهب والبنية التحتية، وبيئة التشغيل والبحث، والتطوير، والاستراتيجية الحكومية والتجارية، وتحول الاستثمار والتجارة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى تجارة دولية صاعدة، خاصة أنه من المتوقع أن يصل حجم البيانات عام 2025 إلى ما يعادل 181 زيتابايت.

وقد شهد عام 2022 زيادة في استثمارات الشركات في الذكاء الاصطناعي، حيث بلغت قيمتها 2.65 مليار دولار بعدد صفقات وصلت إلى 110 صفقة؛ حيث بلغت نسبة الزيادة 72 % مقارنة بعام 2021 والذي شهد استثمارات بقيمة  1.55 مليار دولار بعدد 105 صفقة.  بينما بلغت0.27 مليار دولار في عام 2020 ، ووصلت في عام 2019 إلى 1.3 مليار دولار، في حين  وصلت إلى 0.2 مليار دولار عام 2018 (وفقًا لمجلة الإيكونوميست، الصادرة يوم 30 يناير 2023).

وجذب هذا الإنفاق الهائل عددًا كبيرًا من الشركات الناشئة باستثمارات بلغت 17.1 مليار دولار. وبلغ حجم التمويل 15.1 مليار دولار في الربع الأول من العام الحالي. وبلغت قيمة سوق الذكاء الاصطناعي في عام 2021 نحو 328 مليار دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى 1.394 تريليون دولار بحلول عام 2029 بنسبة نمو تصل لـ 20 %.

في حين بلغ حجم السوق في أمريكا الشمالية 144 مليار دولار، ومن المتوقع أن تتجاوز عائدات رقائق الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم 80 مليار دولار في الأعوام الخمسة المقبلة. كما أن 83 % من الشركات تعد الذكاء الاصطناعي أولوية قصوى في استراتيجياتها. ومن المتوقع أن يعمل 97 مليون شخص في قطاع الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2025. ومن المتوقع أن يتم إدخال نحو 69 % من الأعمال الروتينية التي يؤديها المديرون في الوقت الحالي ضمن تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل كامل.

 

 

ومن جهة أخرى، انعكست الأزمة الاقتصادية العالمية على تطبيقات الذكاء الاصطناعي؛ حيث انخفض التمويل العالمي بنسبة  34 % في عام 2022، ليبلغ 45.8 مليار دولار، بعدما سجل 69.7 مليار دولار في عام 2021. وتراجع حجم التمويلات؛ حيث انخفضت بنسبة 10 % على أساس سنوي لتبلغ 2956 صفقة في عام 2022 مقارنة بنحو 3274 صفقة في عام 2021. وانخفضت قيمة الجولات التمويلية الضخمة التي تتجاوز 100 مليون دولار في عام 2022 لتبلغ 115 جولة، مسجلة تراجعًا بنسبة 39 % عن عام 2021. وتراجعت عمليات الاستحواذ أو الاندماج في مجال الذكاء الاصطناعي بنسبة 17 % على أساس سنوي في عام 2022 لتصل إلى 259 صفقة، وتراجعت الاكتتابات الأولية بنسبة 57 % إلى 19 اكتتابا.

رابعًا: تطبيقات الذكاء الاصطناعي وسباق التسلح بين القوى الكبرى  

في ظل الفرص التي تتيحها الثورة الصناعية الرابعة للتقدم الاقتصادي وانعكاسه على القوة الاستراتيجية الشاملة للدولة، أصبح هناك وعي متصاعد لدى القوى الدولية بأهمية  تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحول ميزان القوى في النظام الدولي، وباتت العديد من الدول تدرك أن من يحكم سيطرته على الذكاء الاصطناعي سيكون له الغلبة والثروة والهيمنة، وهو ما يدفع العديد من الحكومات إلى مواكبة تلك المتغيرات الجديدة التي فرضتها تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وبخاصة تداخلها مع كافة المجالات الأخرى، كالفضاء والتكنولوجيا الحيوية.

وفي ظل مخاض مرحلة انتقالية في النظام الدولي، تسعى الدول الكبرى إلى التوظيف الأمثل لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في مصادر قوتها الشاملة، وبخاصة في ظل تداعيات الأزمة الأوكرانية. إلى جانب وجود فرص للدول الصغرى في النظام الدولي أن تحقق كذلك نجاحات سريعة بفضل تبني تلك التقنيات الجديدة، وذلك إلى جانب تعاظم دور الشركات التقنية الكبرى وتغولها في مقابل تصاعد حركة الدفاع عن السيادة الرقمية، خاصة إنها تدخل في تطوير نظم تسلح ذاتية القيادة مثل التقدم في  الطائرات بدون طيار، وإدخال «الروبوتات» المجال العسكري، ودور الذكاء الاصطناعي في الدفاع والردع ضد الهجمات السيبرانية، وفي مجال عمل الأسلحة التقليدية وغير التقليدية مثل الأسلحة النووية والعابرة للقارات.

ومن ثم، فإن تصاعد تلك المخاطر الجديدة يستلزم بناء سياسات واستراتيجيات دفاعية متعلقة بالأمن القومي تأخذ في اعتبارها تلك التهديدات غير التقليدية.

ولا تخفي الولايات المتحدة خوفها من خطر التقدم الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي على الرغم من هيمنتها -حتى الآن- حيث تتصدر الشركات الأمريكية مثل الفابيت وميتا ومايكروسوفت مجالات صناعة الذكاء الاصطناعي، سواء من خلال الاستثمار أو الاستحواذ، وتهدف إلى أن  تكون لاعبًا رئيسيًا فيها، والتي يتوقع أن يصل إلى ما يزيد عن 118 مليار دولار بحلول عام 2025 (وفقًا لشركة برماجيات، InvestGlass، 6 فبراير 2023).

وما يزيد المخاوف الأمريكية هو تقدم الصين بالفعل في 37 من مجالات التقنية المتقدمة الـ44، في حين جاءت الولايات المتحدة في المرتبة الثانية ولكنها تصدَّرت المركز الأول في التقنيات السبع الباقية مثل تصميم وتطوير أجهزة أشباه الموصلات المتقدمة، والحوسبة عالية الأداء، والحوسبة الكمية واللقاحات. وتحتكر الصين 8 مجالات تقنية مثل  تقنيات النانو تكنولوجي، والاتصالات المتقدمة بالترددات الراديوية، بما في ذلك شبكات الجيل الخامس والسادس، وطاقة الهيدروجين والأمونيا، والبطاريات الكهربائية، والبيولوجيا الاصطناعية.

 

 

وعلى مستوى التنافس في تطبيقات الذكاء الاصطناعي تحتل الولايات المتحدة المركز الأول بينما تأتي الصين في المركز الثاني عالميًا، ولكنها متقدمة في مجال البحث والتطوير عالميًا، وهو الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي جو بايدن في قمة ميونخ للأمن في فبراير 2023 للحث على التعاون مع أوروبا في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وعدم السماح بتهديد مركزها المتقدم من قبل قوى أخرى، وبخاصة مع التقدم الصيني المتسارع لسد الفجوة، والاتجاه إلى عسكرة تطبيقات الذكاء الاصطناعي من جهة أخرى، وخاصة مع خطتها المعروفة بـ «صنع في الصين 2025» ورغبتها بحلول عام 2049 -الذكرى المئوية لتأسيسها- بأن تتقدم في  كافة المجالات، وبخاصة الذكاء الاصطناعي، بعد أن حققت بالفعل تقدما في مجال استخدام البيانات الضخمة والخوارزميات الذكية، وتطبيقاتها في الصناعة.

وتخطو دول أخرى مثل كندا واليابان وكوريا الجنوبية أيضًا خطوات كبيرة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. ومن جهتها خصصت كندا لاستراتيجية الذكاء الاصطناعي مبلغ 125 مليون دولار لتعزيز البحث والتطوير، وعززت اليابان خطتها المعروفة بـ«مجتمع 5.0» «Society 5.0» لدمج الذكاء الاصطناعي في التنمية الوطنية. وخصصت كوريا الجنوبية 14 تريليون وون لغرض تعزيز قدرتها التنافسية.

ويكشف ذلك أن هناك تنافسًا ورغبة قوية لدى بلدان أخرى غير الولايات المتحدة والصين تسعى للاستثمار في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، حيث كان الاتحاد الأوروبي قد أطلق في عام 2019 مبادرة الذكاء الاصطناعي لبناء القدرات والتعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء.

 

 

وعلى الرغم من تخلف أوروبا ككل في تطوير الذكاء الاصطناعي، إلا أن هناك دولًا منفردة مثل فرنسا وألمانيا بدأت في السنوات الأخيرة، اللحاق بالركب، والتنافس في سباق الذكاء الاصطناعي، وأعلن كلا البلدين عن خطط لاستثمار مليارات الدولارات في البحث والتطوير.

خامسًا: التحديات المستقبلية للذكاء الاصطناعي

من المتوقع أن يؤدي تعاظم دور تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ والتوسع فيها إلى عدد من التحديات التي يمكن إجمالها فيما يلي:

1- اختفاء وظائف قائمة، ومن ثم التأثير في زيادة البطالة بين من لا يستطيع التأقلم مع المهارات الجديدة التي ستظهر أيضًا؛ حيث تشير التقديرات بفقدان 800 مليون عامل لوظيفته بحلول عام 2030، وهو الأمر الذي سيكون له تأثير على زيادة الفقر والفجوة الرقمية وعدم المساواة داخل المجتمع.

2 - التأثير الكبير على البيانات الشخصية والتعامل معها، وهو ما من شأنه التأثير على الخصوصية للمستخدمين أو المواطنين، وبخاصة مع زيادة استخدام كاميرات المراقبة إلى جانب الهواتف الذكية. وسيؤدي ذلك إلى صراع السيطرة والاستحواذ على تلك البيانات الشخصية بين الشركات المشغلة للخدمات من جهة، وبين المستخدمين أصحاب تلك البيانات وبين الحكومة التي ينتمي لها المواطن من جهة أخرى، وبخاصة مع فرص التعرض للجرائم الإلكترونية والقرصنة والهجمات الإلكترونية.

3 - على الرغم من إمكانية توظيف الذكاء الاصطناعي في عمليات الدفاع السيبراني ضد الهجمات السيبرانية، فإنها يمكن كذلك أن تستخدم في تطوير برمجييات خبيثة وشن هجمات سيبرانية، سواء ضد المُنشآتٌ أو الأفراد أو القطاع الحكومي والخاص، وهو ما يمكن أن يفاقم الخسائر المالية والاقتصادية في المستقبل.

4 - إشكاليات تحيّز تطبيقات الذكاء الاصطناعي بسبب طبيعة تشكيل الخوارزميات التي تعتمد عليها في تحليل البيانات، وانعكاس ذلك على عملية إتاحة الخدمات أو الوظائف أو التمييز ضدّ مجموعات أو أفكار محددة تنتج في النهاية قرارات غير عادلة.

5 - تزايد مخاطر توظيف الذكاء الاصطناعي في “التزييف العميق” سواء عبر إنتاج المقاطع الصوتية والبصرية، أو بإنتاج المحتوى والنص، أو بتدشين شخصيات رقمية شبيهة للسياسيين أو المشاهير أو شخصيات لأشكال بشرية غير حقيقية.

6 - المخاوف من مركزية النفوذ في يد حفنة قليلة من الشركات العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي أو الدول الكبرى، على نحو ينعكس في تعزيز الهيمنة السيبرانية وعسكرة تطبيقات الذكاء الاصطناعي بما يؤثر في إتاحة منافع تلك التطبيقات للجميع دون تمييز وتوظيفها في التنمية، خاصة أن الفجوة المحتملة في امتلاك تطبيقات الذكاء الاصطناعي سيكون لها تأثيرات مدمرة على المستوى الاجتماعي والاستقرار الدولي.

7 - إن العديد من الشركات التي لعبت دورًا  رئيسيًا  في وسائل التواصل الاجتماعي مثل شركة ميتا، وجوجل، وأمازون، وآبل ومايكروسوفت، أصبحت الآن رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي يحمل مخاوف من تكرار التجربة المريرة التي فرضتها تلك المنصات من سوء استخدم البيانات الشخصية أو لتوظفيها في أيدي جهات أمنية واستخباراتية.

8 - على الرغم من التقدم الذي أحرزه  برنامج "ChatGPT"، وغيره من تطبيقات التعلم العميق، إلا أنه مازال يواجه بمشكلات انتهاك الخصوصية والتضليل والوعي الزائف؛ حيث أنه يقوم بجمع بيانات عن المستخدمين، وصعوبة الكشف عن الآليات التي يعتمد عليها. بالإضافة إلى مشكلات ثقافية ولغوية أخرى  بعض منها ربما يتحسن في المستقبل، بينما يبقى الآخر مرتبطًا بطبيعة تلك البرمجيات التي مازال يتم السيطرة عليها عن بعد من قبل شركات أو دول.

سادسًا: مستقبل تطبيقات الذكاء الاصطناعي بين التغول والحوكمة  

يتطور الذكاء الاصطناعي بسرعة تفوق قدرة المجتمع على مواكبتها أو حتى فهم كافة أبعاده، ولكن تأتي أهمية دراسة مستقبل تطبيقات الذكاء الاصطناعي خاصة، والثورة الصناعية الرابعة وما بعدها بشكل عام، كوسيلة ومحاولة للاستقراء والاستشراف والتنبؤ بتأثيراتها، وهو ما يعزز من الفرص الممكنة ورصد التحديات وبناء سياسات بديلة في المستقبل، ورصد حالة التقدم على المستوى التقني أو الفني والتطبيقات والسياسات الملائمة. وفي ظل تحرك الثورة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتحقيق عدة أهداف لعل أهمها، أن يكون العقل البشري قادرًا على التحكم في الأشياء من حول الإنسان، وأن يكون الكمبيوتر أو الآلات المتحركة ذاتيًا والروبوتات قادرة على فك شفرات الرغبات الشخصية لدى الإنسان حتى ينفذها.

ويقع هذان الهدفان ضمن الاتجاهات الضخمة المتوقع حدوثها بقوة في المستقبل، ويدفع ذلك إلى أهمية معالجة التأثير المرتقب لتطبيقات الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بدراسة الأبعاد الإيجابية والسلبية، والفجوة المتوقعة والمتزايدة بين الدول المتقدمة والدول النامية، وكيفية تحقيق التوازن مابين قدرات الإنسان الحالية والمحتملة من جراء الولوج إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وأهمية تطوير عملية توظيف المعلومات والمعرفة المتاحة في اتخاذ القرارات الملائمة، وذلك من أجل وضع طرق مثلى لمواجهة مخاطر المستقبل. وذلك بناء على دراسة ورصد حالة التغير التي تحدثها تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وذلك من أجل تحديد الاحتمالات الممكنة لتطور تلك الظاهرة  في المستقبل، والقدرة على تفضيل احتمال دون غيره، خاصة وأن المحرك الرئيسي للذكاء الاصطناعي هو الابتكار والذكاء البشري، وهو ما يجعل منه عملية ممتدة الأثر، ويجعل من المتغير التقني سريع  الخطى بشكل غير مسبوق. وهو الأمر الذي يجعل من مدة العلاقة بين التطبيق والنظرية قصيرة للغاية، وتجلب معها متغيرات ثورية، سواء في التطبيقات أو في عناصر القوة المنبثقة عنها، وهو ما يجذب الاستثمارات في مجال البحث والتطوير مع زيادة التنافس الدولي المعقد، سواء على مستوى الشركات التقنية أو على مستوى الدول الكبرى، بما يجعل المعركة ممتدة وبلا نهاية معروفة ما دام هناك طموح وخيال بشري يقف وراءها. وقدرة هذه التطبيقات من جهة أخرى، في إعطاء قوة هائلة في التحكم والسيطرة عن بعد وإحداث فجوة هائلة ما بين الدول أو المجتمعات أو الأفراد على أساس المعرفة والقدرة على الوصول لتلك التطبيقات الجديدة.

ويدفع  التطور في  الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى تزايد قدرة تطبيقات الذكاء الاصطناعي على التعرف على الصور واللغة مقارنة بالقدرات البشرية، والانتقال من مرحلة التعرف على الصور إلى توليدها وإنتاجها، والقدرة على إنتاج اللغة بشكل غير مسبوق، وتحليلها وإنتاج المحتوى عبر منصات الذكاء الاصطناعي.

ويتوقع أن يتم تطوير الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي ليكون قادرًا على  التعلم الذاتي أو «تعلُم التعلم» دون تدخل البرمجة البشرية، وهناك طموحات بأن يصل إلى مرحلة ما بعد التعلم بقدرة الذكاء الاصطناعي في حل المشكلات، والتي لم يتم مواجهتها من قبل. ويدشن ذلك بلورة تحولات لتطبيقات الذكاء الاصطناعي من مرحلة الذكاء الضيق إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي العام، ثم مرحلة الذكاء الاصطناعي الخارق بهدف الوصول إلى قدرات تتفوق على البشر.

وتدفع حالة التسارع في سباق التسلح للذكاء الاصطناعي في المستقبل نحو أهمية مشاركة جميع الدول في تقاسم الفوائد على قدم المساواة، وذلك من شأنه أن يعزز من المسئولية المشتركة، ويدفع لأهمية تبني المجتمع الدولي المعايير الأخلاقية والدولية في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

وعلى الرغم من أن ذلك قد يصطدم باحتكار القوة من جانب الدول الكبرى إلا أنه يشكل على الأقل عبئًا دبلوماسيًا وأخلاقيًا عليها طول الوقت، ويعزز من الاستخدامات المدنية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتأمين أنظمة الذكاء الاصطناعي لحمايتها من خطر الاختراق أو القرصنة أو الهجمات السيبرانية، وجعل تقنيات الذكاء الاصطناعي متاحة وغير منحازة عبر تطوير الخوارزميات التي تعتمد عليها. وتطوير البرمجيات والأنظمة لتصبح أكثر شفافية ومراعاة للفئات الأضعف كالمراهقين والشباب.

إجمالا، يمكن القول  إن مستقبل تطبيقات الذكاء الاصطناعي سيتجه إلى ثلاثة اتجاهات، أولها، الاتجاهات الضخمة، عبر إحداث طفرة ونقلة كبيرة في الواقع الدولي بشكل سريع وتنافسي. وثانيها، الاتجاهات الفرعية، يمكن أن تتطور أو تنبثق من الاتجاهات الضخمة عبر إحداث تطور نوعي أو فرعي في تأثيرات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وثالثها، الاتجاهات المحتملة، لتطبيقات الذكاء الاصطناعي من خلال القدرة على توليد الأنشطة أو التطبيقات أو المشروعات التي يمكن أن ترتبط بها وتتصاعد في المستقبل، ومن ثم، فإنها تكون لها القدرة على تشكيل الاتجاهات السائدة في المستقبل.

كذلك، رغم الاعتقاد لدى عدد من الباحثين بأنه يمكن الوصول على الأقل إلى نصف قدرة العقل البشري بحلول عام 2040، إلا إن الإنسان سيظل هو من يحركه ويسيطر عليه. وتكشف التجربة الدولية السابقة أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يكون نقيضًا للذكاء البشري، بل أنه عامل مساعد له، وما صنعه الإنسان من الآلات امتلكت ذكاءً صناعيًا. ومن ثم، لم تصبح «الآلات» مفكرة، بل إنها كانت خاضعة بالفعل إلى برمجيات للتحكم والسيطرة من قبل الإنسان، ولكن تكمن الخطورة في توظيف ذلك التقدم لأهداف عسكرية أو غير إنسانية.

ومن ثم، فإن الخوف مما يسمى  بسيطرة الذكاء الاصطناعي على العقل البشري ليس له مبرر؛ لأن المشكلة الأساسية تكمن فيما يكمن وراء تحريك تلك التطبيقات من البشر أنفسهم، وأن أي أخطاء أو تجاوز لتلك الصلاحيات الممنوحة تكمن في خلل في الخوارزميات التي تم وضعها، وأن القدرات الخارقة أو غير المعتادة التي سيصل لها الذكاء الاصطناعي في المستقبل سيتوقف الخوف منها على مدى سعي الإنسان لعسكرة تلك التطبيقات لإدارة صراع عن بعد مع قوى دولية أخرى. ولن يشهد العالم صراعًا بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي بل سيكون عبر تحالفهما معًا لتحقيق أهداف بشرية في النهاية في معركة الاستحواذ على قوة الحاضر والمستقبل.



© 2012 جميع الحقوق محفوظة لــ المركز العربى لأبحاث الفضاء الالكترونى
>