وهذا التحول من فعل البندقية إلى إرادة الشارع وتأثير الصورة والكلمة كما يشرح الدكتور صباح ياسين في كتابه: "الإعلام الفضائي في الوطن العربي، تحليل للمضمون والتأثير في النخب والرأي العام" لم يستكمل "مدياته" لولا التلفزيون الفضائي الذي نقل ما كان يحدث خلف الستار وفي الشوارع والميادين إلى العلن.
ويستعرض مؤلف الكتاب -وهو باحث وسياسي وإعلامي وأستاذ الإعلام في جامعة البتراء الأردنية- المشهد الإعلامي العربي من خلال ثمانية فصول تضمنها الكتاب عززها باستطلاع رأي النخب العربية في الإعلام الفضائي وتحديدا دوره في الربيع العربي.
فالنخب العربية، وطبيعة تكوين الرأي العام، ودور التلفزيون الفضائي العربي، ثم الحراك الشعبي، هي -بحسب المؤلف- عوامل مجتمعة في طبيعة التكون والتأثير، وبالغة التعقيد والتداخل، خلفت إطارا لتحولات جذرية في الحياة السياسية العربية لم يشهدها الوطن العربي منذ أكثر من خمسين عاما.
ويتساءل المؤلف هل أعطى التلفزيون الفضائي العربي للاحتجاجات الشعبية اهتماما في تغطيته المباشرة؟ ثم يردفه بسؤال ثان ماذا لو لم يهتم التلفزيون الفضائي العربي بحركة الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية، وبسؤال ثالث ماذا لو لم تتابع التظاهرات التي خرجت لأول مرة في تونس احتجاجا على الأوضاع القائمة هناك وتضامنا مع حدث الإحراق المتعمد لمحمد البوعزيزي لجسده؟
ويبرز المؤلف أهمية الأسئلة الافتراضية التي تتعامل مع المعطى ونقيضه الذي قادته إلى السؤال الجوهري حسب رأيه عن مدى اهتمام وحتى "اشتباك" المواطن بتلك الوسيلة المبهرة والشديدة التأثير لخصائصها المعروفة ويقصد التلفزيون الفضائي التي وجدت في العينات المبحوثة من النخب العربية تفاعلا إيجابيا في الإجابة التي اعتبر المؤلف أنها لم تكن مجرد فكرة البحث بل تواصلت مع معطى إدراك ذلك الدور الذي نهض به التلفزيون الفضائي بشكل متميز وغير مسبوق والذي تجاوز الاهتمام بالتغطية التقليدية المعروفة إلى التحريض ومن ثم التمكين.
ثمة عملية صيرورة ونزوع نحو التغيير تتم في دائرة تتداخل فيها البدايات والنهايات والنخب أفكارها وأحلامها، والتلفزيون بإبهاره وفوريته وانغماسه في التفاصيل، والمواطن بتفاعله مع الإعلام وتعلقه بحاجياته ومشاغله |
عمليا يجزم المؤلف أن التلفزيون الفضائي العربي تحول إلى شريك فاعل في كل مراحل الحراك وأنتج صورا مقتبسة وحية من الواقع، وساهم في بناء مجسم حي للصراع بين قوى الحراك الشعبي بكل عناصرها وبين القوى المضادة للتغيير من الحكام والمستفيدين من الأوضاع السابقة.
وفي معرض تقييمه لأداء التلفزيون الفضائي في تغطيته للحراك الشعبي يشير المؤلف إلى أن هذه الوسيلة انحازت بشكل كامل لإرادة المتظاهرين وكانت مظلة لحمايتهم من أي غدر من خلال الكاميرا التي لا تنام والتي ساهمت في استمرار الحراك ونجاحه.
ويفسر المؤلف الدور الذي نهض به التلفزيون الفضائي في عملية التغيير التي طالت عدة دول عربية بأنه تصحيح لمسار العلاقة بين المواطن ووسائل الإعلام التي كان طرفا معادلتها الحكومات المسيطرة والمالكة أو الرقيبة على وسائل الإعلام والمواطن.
وهذا الخلل الذي أصاب مسار العلاقة بين طرفي المعادلة، السلطة المالكة للوسيلة الإعلامية والمواطن كان لصالح المتلقي الذي أصبح يمارس سيادته وتأثيره عبر مساحة الوسيلة الإعلامية وتعبيره الحر عن آرائه ومعتقداته بعيدا عن الرقيب الذي تراجعت سطوته بعد طغيان الصورة على الحدث كمعبر وناقل لما يجري في الميادين والساحات.
ومهد التلفزيون الفضائي بدخوله ميادين الحراك الشعبي -كما يقول المؤلف- لإفراز نخب وطنية جديدة أغلبها من الشباب بعد أن وجدت قوى النخب التقليدية سواء العلنية أو المحظورة أن حركة الشارع الاحتجاجية قد تجاوزت تلك الأحزاب، بالمبادرة والتأثير والقدرة على قيادة الشارع والثبات على المواقف.
وسلط المؤلف الضوء على إغواء الصور وأهميتها وإبهارها، لمكانتها المتميزة والمؤثرة في البلاغ السياسي اليومي "فالصورة كانت شاهدا حيا على ولادة الحدث، وأصبحت النخب تصمم وتخرج رواياتها في صناعة فعل التغيير، وتمسك بالتلفزيون الفضائي في خطوات التحريك لإحداث الانتقال من مرحلة إلى أخرى طبقا لتطور مطالب الجماهير في ميادين الاعتصامات".
واستند المؤلف في معرض رصده لمعالم التحولات الجارية في عالمنا العربي إلى استفتاء آراء النخب، ومن مختلف الدول العربية حول ماهية الوسيلة الاتصالية الأكثر حضورا في الحراك الشعبي ودورها في عملية التغيير وإفراز نخب جديدة على حساب النخب التقليدية وآفاق تأثيرها في تكوين الرأي العام وقيادته.
انحاز التلفزيون الفضائي بشكل كامل لإرادة المتظاهرين وكان مظلة لحمايتهم من أي غدر من خلال الكاميرا التي لا تنام والتي ساهمت في استمرار الحراك ونجاحه |
ويلخص المؤلف نتائج التحليل الإحصائي لمجمل إجابات النخب التي اتفقت غالبيتها على أن التلفزيون لما له من تأثير مباشر في المتلقي ساهم في تكوين رأي عام موحد إزاء أهمية العمل الشعبي الموحد لإحداث التغيير السياسي والاجتماعي عبر أسلوب الاحتجاجات وبالتظاهرات السلمية.
ويرى المؤلف في البرامج الحوارية محاولة للضرب على ما وصفه بالجدار المسكوت عنه، ويتعرض للقشرة الصلبة التي كانت تغلف الأنظمة السياسية العربية، وكيف حافظ التلفزيون الفضائي على نقطة التوازن بين أشكال النخب الفاعلة في خضم الحراك، وبين صيرورة الشارع المتسم بعفويته وثوريته إلى حد الفوضى في بعض الأحيان.
إن هذا الكتاب لا ينحصر في تأطير مشكلة البحث في تلك العلاقات المتعددة الأطراف بين النخب العربية والرأي العام والوسيلة الأكثر تأثيرا في الواقع الراهن، أي القنوات التلفزيونية الفضائية، بل يشمل البحث عن تلك العلاقة التفاعلية عبر مرحلة مفصلية بالغة الأهمية في التاريخ العربي المعاصر وهي مرحلة الحراك الشعبي (الربيع العربي) الذي فجر ثورات عصفت بأنظمة عربية مستبدة وأطاحت بها.
ولا يزال ذلك الحراك في أفعاله الارتدادية يهز أركان الكيان العربي من مشرقه إلى مغربه وهو ما يستدعي طرح عدة تساؤلات حول ماهية تأثير النخب العربية ودورها في سياق فاعلية التلفزيون الفضائي العربي في الحياة السياسية العربية وفي عملية التحديث والبناء الديمقراطي.
هذا الكتاب يمكن أن نضعه في تصنيف محدث بين المحاولة وإعادة المحاولة، فموضوعه المعنون بالعلاقة بين النخب العربية والتلفزيون الفضائي والرأي العام والحراك الشعبي لا يحتاج في ظاهره إلى الكثير من التفسير والدلالة، ولكنه في الواقع يشي بأمور متداخلة وشديدة التفاعل والتعقيد أحيانا.
فالتوافق برأي المؤلف الذي حدث وقاد إلى فعل حاسم على مستوى الانتقال إلى التغيير والتحول إلى الديمقراطية كان في الواقع من دون تنسيق مسبق بين مثلث النخب العربية والحراك الشعبي والتلفزيون الفضائي العربي لإنتاج رأي عام ساهم في تمكين قوة الشارع من فعل التغيير الجذري، وإنما كان الحدث نفسه أيضا قد ساهم في تفعيل تلك العلاقات بالصورة التي شاهدناها لحظة بلحظة وبكل تفاصيلها.
ساهمت العلاقة بين التلفزيون الفضائي والمتلقي العربي في إسقاط لغة الخطاب الخشبية الجامدة بمحتواها التسلطي التي كانت تسود الأنظمة الإعلامية الرسمية قبل الحراك، وجردت الإعلام الرسمي من أي تأثير |
بهذه الصورة جاءت هذه المحاولة البحثية المنهجية للباحث والإعلامي صباح ياسين للتعبير عن الغاية في الإحاطة بتلك الفكرة التي توهجت خلال سنوات الحراك الشعبي، وتجسدت معالمها على شاشة التلفزيون الفضائي العربي الذي كان بحق جزءا من تلك التحولات السياسية والفكرية التي شهدها الوطن العربي في عالم يتشكل بقوة الكلمة وإغواء الصورة وحدود لحظة التأثير.
يقول المؤلف إن العلاقة التي تحققت بين التلفزيون الفضائي والمتلقي العربي منذ أن تفجر الحراك الشعبي وانتقل إلى أكثر من بلد عربي قد أسقطت لغة الخطاب الخشبية الجامدة بمحتواها التسلطي التي كانت تسود الأنظمة الإعلامية الرسمية بل إن الإعلام الرسمي أضحى معزولا وفقد أي قوة للتأثير بالمتلقي.
ويخلص المؤلف إلى القول: في آخر المطاف ثمة عملية صيرورة ونزوع نحو التغيير تتم في دائرة تتداخل فيها البدايات والنهايات والنخب بكل أفكارها وأحلامها، والتلفزيون بإبهاره وفوريته وانغماسه في التفاصيل، والمواطن الذي اشتبك وتفاعل مع الإعلام وتعلق بحاجياته ومشاغله الذي غادر مواقع الخوف إلى حد الانغماس والتماهي في تفاصيله وصولا إلى القدرة على إدراك قوته في الثورة والتغيير.
ولأجل ذلك لا يمكن اختصار تلك العلاقة في رسم خارطة دلالية واحدة يمكن أن تجمع تفاصيل ما حدث خلال حقبة الحراك، بل هي أفق متسع ومتفاعل ودائم الحركة والتطور إلى مستقبل تشكل معالمه وغاياته، مستقبل سوف يكون عنوانه الأكيد وحدة الأمة ونهوضها وتحررها.
|