المقالات -
عولمة اقتصادية مفتتة .. عواقبها سلبية

: 342
الثلاثاء,14 مارس 2023 - 04:17 ص
محمد العريان

على مدى ثلاثة عقود من الزمن، كانت الشركات والحكومات في مختلف أنحاء العالم تعمل استنادا إلى افتراض مفاده أن العولمة الاقتصادية والمالية ستستمر وتتقدم بخطى سريعة. لكن مع خضوع النظام الدولي إلى ضغوط شديدة في الأعوام الأخيرة، اكتسب مفهوم انحسار العولمة -فك الارتباط بين التجارة والاستثمار- مزيدا من الثقـل بين الأسر والشركات والحكومات. لكن البيانات المتاحة تشير إلى أن العولمة لا تنتهي، بل تتغير.

عولمة اقتصادية مفتتة .. عواقبها سلبية
اضغط للتكبير


قبل وقت ليس ببعيد، بدا الأمر وكأن التكامل الاقتصادي والمالي أصبح بلا حدود. لعقود من الزمن، بدت فوائد العولمة واضحة ومنيعة. وعمل الترابط المتبادل بين الإنتاج والاستهلاك وتدفقات الاستثمار على تزويد المستهلكين بمجموعة أوسع من الاختيارات بأسعار مغرية، وتمكين الشركات من توسيع أسواقها وتحسين كفاءة سلاسل إمدادها. كما عملت أسواق رأس المال العالمية على توسيع القدرة على الوصول إلى الائتمان وخفض التكلفة التي يتحملها المقترضون من القطاعين العام والخاص على حد سواء. وانخرطت حكومات العالم فيما بدا وكأنه سلسلة من الشراكات المربحة للجميع. أما التكنولوجيا -بما في ذلك التحول المتسارع أخيرا نحو العمل عن بعد- فقد جعلت الحدود الوطنية تبدو إلى حد كبير عديمة الأهمية.

لكن بينما جعلت العولمة الأسواق تعمل بشكل أفضل، فإن صناع السياسات غفلوا عن عواقبها السلبية المرتبطة بالتوزيع. فقد تركت مجتمعات ودولا عديدة خلف الركب، ما أسهم في انتشار الشعور بالتهميش والإقصاء على نطاق واسع.

وكانت النتيجة ردة فعل عنيفة ضد العولمة، التي كانت أبرز تجلياتها متمثلة في تصويت المملكة المتحدة لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة في 2016. وسرعان ما انخرطت الولايات المتحدة في حرب الرسوم الجمركية مع الصين، الأمر الذي أدى إلى تعميق الانقسام بين القوتين الاقتصاديتين. في الوقت ذاته، عمل المستهلكون الغربيون بقوة متزايدة على إقصاء منتهكي حقوق الإنسان والدول التي تلحق الضرر بالبيئة. وأفضت الحرب في أوكرانيا، إلى فرض عقوبات غير مسبوقة ضد روسيا "إحدى دول مجموعة العشرين"، واستخدام نظام المدفوعات الدولي كسلاح.

ترتب على كل هذا أن استنتج كثيرون أن العولمة انتهت. لكن بدلا من الانقلاب الحاد في الاتجاه المعاكس لما تحقق على مدار الأعوام الـ30 الأخيرة، يبدو من الأرجح أننا ندخل حقبة من العولمة المفتتة التي تتسم بالإحلال وليس الإبطال.

يعد نظام العقوبات التي فـرضت على روسيا مثالا واضحا على ذلك. على مدار العام الماضي، لم تتمكن القيود التي قادها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من تقليل صادرات روسيا من النفط بشكل ملموس، بل أعادت توجيهها إلى أماكن أخرى، بشكل أساس إلى الصين والهند. على نحو مماثل، بدلا من تركيع الاقتصاد الروسي، كما توقع وزعم كثيرون، أفضت العقوبات الشاملة إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي الروسي 2 في المائة فقط، حيث تمكن التكنوقراط الروس من إيجاد الطرق لإعادة توجيه وتوصيل الأنشطة المحلية والخارجية

نلاحظ أن الأمر الأكثر إثارة للقلق والانزعاج للدول الغربية أن روسيا وبعض حلفائها أحرزوا بعض التقدم أيضا في إنشاء نظام مدفوعات وتسويات مواز عبر الحدود، وإن كان بدائيا ويفتقر إلى الكفاءة. لكنه نجح في أن يقدم شيئا.

ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه خلال الأعوام القليلة المقبلة، مع حرص الشركات بشكل متزايد على تنويع سلاسل التوريد بعيدا عن الصين، ومع لجوء الحكومات الغربية لجلب التصنيع في الخارج إلى البلدان القريبة والصديقة للحفاظ على إنتاج المدخلات الحرجة والصادرات الحساسة.

باختصار، سيؤثر ذلك الخليط من الصدمات الجيوسياسية، والاستراتيجيات الشركاتية، والقيم الاجتماعية المتغيرة، في أنماط التجارة والاستثمار على طول أربعة محاور رئيسة. مع حرص الشركات على اختيار المرونة قبل الكفاءة، فستعمل بشكل متزايد على تحويل نهجها في إدارة سلاسل التوريد من "حسب الحاجة" إلى "على سبيل الاحتياط". وسيأتي هذا في وقت حيث تكتسب المخاوف الأمنية قدرا أعظم من الثقل في الاعتبارات التجارية، وستبتعد الشركات عن تقاسم المخاطر والشراكات العامة إلى ترتيبات أضيق تصميما. من ناحية أخرى، سيبحث المستهلكون على نحو متزايد عن التأكيد على الغرض في تفاعلاتهم التجارية.

في حين إن هذه العملية ستنتج فائزين وخاسرين، فستعتمد هوياتهم إلى حد كبير على الكيفية التي سيتكيف بها صناع السياسات مع نموذج التشغيل الجديد للاقتصاد العالمي. على سبيل المثال، ستستفيد المكسيك من مبدأ دعم الأصدقاء الذي تنتهجه الولايات المتحدة، فضلا عن تحول قطاع الشركات إلى سلاسل توريد أكثر تنوعا. مع ذلك، كما أدركت الحكومة المكسيكية ذاتها، لن يترجم الطلب الوطني إلى طلب فعال ما لم يعمل صناع السياسات على التعجيل بالتقدم في مجالات البنية الأساسية، والطاقة النظيفة، وإلغاء الضوابط التنظيمية، وما إلى ذلك.

في عالم حيث تحرص الأسر على تجنب تفاعلات تجارية بعينها، يجب أن تعمل الحكومات والشركات بجدية أكبر لابتكار البدائل. يجب أن تعمل الشركات مع الحكومات، سواء في الداخل أو الخارج، لتسهيل العملية الشائكة بطبيعتها المتمثلة في إعادة توصيل سلاسل التوريد والتعجيل بالتحول الأخضر. ينبغي لصناع السياسات على المستويين الوطني والعالمي أن يعكفوا على مراجعة طريقة تفكيرهم وعملهم. كما ينبغي لمستثمري الأجل الطويل أن يعملوا على دمج تحليلات جيوسياسية، واجتماعية سياسية، وبيئية في استراتيجيات التخصيص التي يطبقونها.

في حين قد يعد بعض المراقبين عبارة "العولمة المفتتة" تناقضا لفظيا، فأنا شخصيا أعتقد أنها السيناريو الأكثر ترجيحا للاقتصاد العالمي. مع انقسام العالم على نحو متزايد إلى تكتلات متفرقة، قلة منها أكثر سيولة من غيرها، من المرجح أن تصبح العولمة أكثر ميلا إلى التضخم، ما يقلل من النمو المحتمل. يتوقف تجنب هذه النتيجة على كيفية تعامل الحكومات الوطنية والمؤسسات متعددة الأطراف مع الواقع الاقتصادي الجديد. قد لا تنحسر العولمة بشكل كامل عن العالم، لكن هذا لا يعني أننا نستطيع أن نفترض إبحارا سلسا في المستقبل.


Share/Bookmark

اقرأ ايضآ

  • الاقتصاد الكلي للذكاء الاصطناعي
  • المغرب يدخل عصر صناعة البطاريات الالكترونية
  • قانون الأسواق الرقمية الأوربية وحوكمة الشركات الكبرى
  • رحلة الراحل محمد الشارخ حتى تأسيس كمبيوتر صخر
  • الأدلة الرقمية لجرائم الحرب فى غزة
  • فيسبوك
    تعليقات


    غزة وتوجهات جيل زد نحو تغيير قواعد الحوكمة العالمية
    كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة عن متغيرات جديدة فيما يتعلق بعملية صناعة وتشكيل الرأي العام العالمي و

    المغرب يدخل عصر صناعة البطاريات الالكترونية
    في خطوة مهمه لدعم الاقتصاد المغربي من جهة وصناعة السيارات من جهة اخرى اعلنت المملكة للمرة الأولى عن

    قانون الأسواق الرقمية الأوربية وحوكمة الشركات الكبرى
    في 6 مارس 2024 دخل حيز التنفيذ قانون الاسواق الرقمية،داخل الاتحاد الاوربي والذي تم اقراره عام 2022

    موضوعات جديدة
    الأكثر قراءة
    الأكثر تعليقا
    الى اي مدى انت راض على اداء المنصات الرقمية في الحرب على غزة ؟
    راضي
    غير راضي
    غير مهتم
     
        
    سيادة الدولة في العصر الرقمي للدكتور عادل عبد الصادق
    التاريخ