وكان لذلك تأثير محلى وإقليمى ودولى فى ظل صعود فاعلين جدد لمنافسة الشركات الأمريكية فى سوق الشبكات الاجتماعية خاصة مع تعدد مكونات عملها كإنشاء الحسابات وإنتاج المحتوى ونشره والتوصية به وتضمينه بالإعلانات والمراسلات الخاصة وتخزين البيانات وإمكانية بيعها لطرف ثالث.وتطور دور شركات الشبكات الاجتماعية من مجرد مقدم للخدمة او وسيط فى نقلها الى كونها فاعلا فى تنظيم المحتوى والتحكم فيه، فى ظل تنازع السيادة على المحتوى ما بين جمهور المستخدمين، وما بين الحكومات التى ينتمون لها وما بين الشركات التقنية المقدمة للخدمة. وكان من ضمن تلك التطبيقات تيلجرام الذى نما بسرعة كبيرة منذ تأسيسه فى عام 2013 ووصل عدد مستخدميه إلى ما يقارب مليار مستخدم ،وبنى شعبيته كصوت بديل للمنصات الغربية ،وتميزه فى مجال التشفير وحماية الخصوصية وسرية المحادثات وحذفها تلقائيا، وبتوظيف البوتات فى إجرائها وبما يجهل من مصدرها. واتساع عضوية المجموعة داخل التطبيق لتصل لـ 200 الف بما يعزز من القدرات الدعائية، واستخدام الخدمات السحابية والروابط الخارجية لإرسال الملفات الكبيرة ومجانية الاستخدام وعدم تشغيل الإعلانات وبيع البيانات الشخصية. ويعد ذلك مصدر قلق لدى السلطات القضائية وجهات إنفاذ القانون مبعثه إمكانية توظيف القدرة الكبيرة فى التشفير والخصوصية ليس فقط فى حماية المستخدمين من التطفل، سواء من قبل الحكومات، أو من قبل الشركات الإعلانية، بل كذلك فى توفير غطاء تقنى لمنع تعقب المجرمين وحمايتهم من خطر الملاحقة او الكشف عن هويتهم او تقويض فرص النشاط الإجرامى الذى يعتمد على نظام لتبادل البيانات المشفرة بين أجهزة المستخدمين، وما بين الخوادم الحافظة لها بما يضمن تأمين المراسلات. وهو الأمر الذى قد يضر بأمن الفرد والمجتمع والدولة جراء تحويل التطبيق الى ما يشبه الإنترنت المظلم فى سريته، ومن ثم أصبح عنصر جذب من قبل الجماعات الإرهابية او الإجرامية إما لاعتبار تقنى يرتبط بخصائصه الفريدة، او للاعتقاد بأنه غير خاضع لهيمنة الاستخبارات السيبرانية الغربية. وأعلن «بافل» قبل أشهر من تعرضه للاعتقال عن محاولة تجنيد أحد المهندسين لصالح مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية لزرع شفرة لاختراق التطبيق والسيطرة عليه. وكان قد اصطدم من قبل مع السلطات الروسية فى عام 2018 عندما رفض تمكين جهات إنفاذ القانون هناك بقدرات فك التشفير بما يمكنها من قراءة الرسائل الخاصة، او بتسليم بيانات خاصة بالمستخدمين، الاوكران، ويحمل ذلك عددا من المؤشرات لعل أهمها ،
أولا ، على الرغم من النفى الفرنسى لأى أبعاد سياسية للاعتقال وتمسكها بحرية الرأى والتعبير والتواصل فإن عملية الاعتقال جاءت فى ظل تغيرات جيوسياسية مرتبطة بالصراع بين الغرب وروسيا والصين.
ثانيا، تعد قضية حوكمة محتوى الشبكات الاجتماعية من القضايا الصاعدة داخل دول الاتحاد الأوروبى مع تبنى اتجاه التنظيم التقنى ومارس ضغوطا مماثلة على منصة اكس وميتا للالتزام بالمعايير الأوروبية. ثالثا، يمثل محتوى الشبكات الاجتماعية تحديًا تنظيميًا جديدًا يتطلب تعاون جميع الجهات الفاعلة من أصحاب المصلحة بما فيها الدول مع اختلاف النظم التنظيمية القائمة من بلد إلى آخر.الامر الذى يحتاج الى نقاش عالمي.
رابعا، على الرغم من تقدم الاتحاد الأوروبى فى حوكمة الانترنت فإن قوانين مثل قانون الخدمات الرقمية أو قانون الاسواق الرقمية او حتى البيانات الشخصية لا تضمن جميعها إمكانية اعتقال مالك المنصة الرقمية بل فرض غرامات فقط.
خامسا، أدت فوضى الشبكات الاجتماعية الى تصاعد المخاطر بما دفع لنمو توجهات السيادة السيبرانية للدول على البيانات الشخصية والدفع لتحمل الشركات المشغلة المسئولية القانونية عن آثار الاستخدام غير المشروع. سادسا، أدت سيطرة الهاجس الأمنى فى التعامل مع الشبكات الاجتماعية لتعرض الشركات الأمريكية للتدخل للتحكم فى المحتوى لاستهداف المواطنين داخلها بما يمثل حالة من تراجع الحريات عالميا بما فيها أوروبا مع نمو خطر التهديدات الداخلية.
سابعا، على الرغم من نجاح شركة ميتا من تطور خدماتها للفيديوهات القصيرة لسحب الميزة التنافسية لتيك توك فإن الولايات المتحدة ما زالت تمارس ضغوطا للحد من الميزة التنافسية لتليجرام وهو التشفير والسرية.
ثامنا، إشكالية استقلالية صنع القرار حول المحتوى عبر الأخذ بعين الاعتبار البعد المالى والإدارى والحكومى فيها، وإعطاء سلطات إنفاذ القانون وحدها حق التدخل لاعتبارات حماية المجتمع من آثار الشبكات الاجتماعية.
تاسعا، تطوير لوائح دولية لتنظيم قواعد وممارسات الشركات بما يتضمن تنظيم المحتوى وإتاحته بما لا يشكل تهديدا لحقوق الإنسان او حرية الرأى والتعبير وشفافية عملها، وخضوعها للمساءلة والالتزام بأخلاقيات الذكاء الاصطناعى، والحفاظ على حياديتها خاصة فى الأزمات الدولية
أخيرا، أهمية إصلاح الخلل فى سوق منصات الشبكات الاجتماعية وجعله اكثر تعددية، ورفع الوعى بمخاطرها، وتعزيز فرصها فى مجال التنمية، والدفع بالجهود الدولية لتنظيم عملها، ويمثل الاتفاق الرقمى العالمى خطوة مهمة والمقرر الموافقة عليه فى قمة الأمم المتحدة للمستقبل التى ستعقد فى سبتمبر الحالى.