كما أسهم هذا التطور في وسائل الاتصال على نحو غير مسبوق، وبسرعة مذهلة، في تحقيق التواصل بين الناس الذين تجمع بينهم خصائص ثقافية ودينية وسياسية واقتصادية مشتركة، في مشارق الأرض ومغاربها.
وحين تلتقي مثل هذه الأعداد الهائلة من الأفراد، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، تغدو المجتمعات التي كانت خيالية ذات مرة واقعا حقيقيا؛ وتتسع رقعة العوالم الافتراضية التي تضمّهم، وتغرس في «مواطنيها» رغبة متبادلة في تحقيق مصالحهم المشتركة.
يرصد د. جمال سند السويدي، في كتابه الذي وقّعه مؤخرا في معرض أبوظبي الدولي للكتاب، تأثير هذه الظاهرة؛ بهدف استكشاف النتائج المحتملة للتطور المتسارع لشبكات التواصل الاجتماعي وتحليلها؛ فيناقش الإمكانات الاقتصادية بشكل عام، وكذلك تأثير هذه الشبكات في مستقبل وسائل الإعلام التقليدية على اختلافها؛ وذلك بوصفها مصدرا للأخبار ومنصات رئيسية لتشكيل الرأي العام على حد سواء.
وقال السويدي في مقدمة كتابه: «لقد تناولنا في هذا الكتاب تطور دور وسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام الاجتماعي في المستقبل، وما سيعكسه ذلك من تغييرات على كثير من المسلّمات الراهنة، وسيصبح في الغد واقعا ملموسا يجب أن يتأقلم معه الإنسان من دون صـدمة معرفية أو إشكالية في التعامل»، مشيرا إلى أن «التكنولوجيا الرقمية قد تمكنت من العمل على نطاق عالمي لتحقيق بعض أحلام الإنسانية، وأرست قواعد ثقافة إلكترونية عالمية امتدت عبر الزمان والمكان، وتجلى الربط بين تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي أدت بمرور الوقت، دورا بارزا في تشكيل اتجاهات الرأي العام وبناء القناعات الذاتية والمواقف والآراء تجاه مختلف القضايا والأحداث في مختلف المجالات.
ومع ظهور مفهوم «الجمهور الفاعل»، الذي عكس ظهور مقدرة المتلقي على أن يكون منتجا وشـريكا أصيلا ضمن عملية اتصالية تفاعلية بدلاً من أن يكون متلقياً سلبياً للمحتوى أو الرسالة، نجحت وسائل التواصل الاجتماعي في الربط بسـرعة هائلة، وبطريقة غير مسبوقة بين أناس من مختلف أرجاء العالم، تجمع بينهم خصائص ثقافية أو دينية أو سياسية أو عاطفية أو مالية واقتصادية، فعندما يستطيع هذا العدد الهائل من البشـر التلاقي عبر هذه الوسائل، تصبح المجتمعات التي كانت متخيلة أكثر واقعية. وقد تمكنت هذه العوالم الافتراضية من التوسع، وإشعار «مواطنيها» بالحاجة إلى تأكيد مصالحهم المشتركة؛ ما يجعل من الضـروري دراسة الأثر المترتب على ذلك في مختلف المجالات، ومحاولة استشـراف آفاق استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وتحليل ما ينبئ عنه تطورها المتسارع من أجل بناء تصورات للتعامل مع هذه الظاهرة في المستقبل القريب. وتنبع أهمية هذه الدراسة من كون وسائل التواصل الاجتماعي أضحت خلال الآونة الأخيرة متغيراً حيوياً ضمن آليات الحراك السياسـي والاجتماعي في مناطق عدة من العالم، ولاسيما في بعض الدول العربية».
يخصص الباحث جزءا هاما من الكتاب لتوضيح الخطر التفاعلي الذي ينتج عن استخدام من قبل الإرهابيين وعصابات الجريمة المنظمة لشبكات التواصل الاجتماعي. هذا التوظيف الإرهابي والإجرامي لوسائل التواصل الاجتماعي لم يؤدِّ، فقط، إلى تطوير أشكال جديدة من النشاط الإجرامي فحسب، بل إلى «عولمة» الجريمة وظهور أنماط جديدة من الصراع «الافتراضي»، ساحة معركته هي شبكة الإنترنت وسلاحه شبكات التواصل الاجتماعي، أما مقاتلوه فهم الدول والمواطنون.
في مجال الأمن الداخلي، يرى السويدي أن الجهات المعنية بأمور الدفاع والاستخبارات ستعتمد على شبكات التواصل الاجتماعي؛ لشنّ شتى صنوف حروب المعلومات وصدّها، ولرصد تحركات الأفراد الخاضعين للمراقبة، ومتابعة اتصالاتهم كذلك.
ويركّز الكتاب بشكل رئيسي، على تنامي قدرة المتظاهرين ودعاة التغيير السياسي في البلدان ذات الأنظمة القمعية، على تشكيل ضغط سياسي «افتراضي» كبير، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والحصول على المعلومات ونشرها، من دون الخضوع للرقابة، في «ديمقراطية المعلومات» الجديدة.
وهذا الدور الكبير الذي تضطلع به شبكات التواصل الاجتماعي، في التركيبة السياسية والاجتماعية للدول، هو ما يحدد أهمية هذا الكتاب؛ وبخاصة في ضوء حقيقة أن شبكات التواصل الاجتماعي أضحت في الآونة الأخيرة متغيرا حيويا من متغيرات الحراك الاجتماعي-الاقتصادي في جميع أنحاء العالم، وفي العالم العربي على وجه الخصوص.