لذا، إليكم توقعات ليست جريئة بدرجة كبيرة، ستعمل نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية، مثل روبوت المحادثة ChatGPT على إحداث ثورة في الاقتصاد، لكن لا نستطيع أن نقول متى على وجه التحديد؟
لا يمكننا أيضا أن نقول أين؟ بين الأسئلة الأساسية التي ضاعت وسط فورة التعليقات على الذكاء الاصطناعي التوليدي، أي الدول ستستفيد منه وأيها لن تستفيد.
ترى هل تكتسب الولايات المتحدة، وهي المحرك الأول في هذا المجال، قدرا أعظم من الهيمنة على الصعيد الاقتصادي؟ هل يسحق المسار التقليدي الذي تسلكه الدول النامية إلى النمو الاقتصادي، والذي يمر عبر تشغيل العمالة في التصنيع الموجه للتصدير، بفعل الروبوتات الممكنة بالذكاء الاصطناعي؟ هل تجد الهند والفلبين، اللتان تسعيان إلى تحقيق النمو من خلال توسيع قطاعات الخدمات لديهما، هذا الطريق مسدودا أمامهما مع إزاحة الذكاء الاصطناعي التوليدي للمبرمجين وحلول روبوتات الدردشة الممكنة بالذكاء الاصطناعي محل موظفي مراكز الاتصال؟
من المؤكد أن الولايات المتحدة تتمتع بمزايا في تطوير نماذج لغوية ضخمة. فهي تستفيد من التعاون الوثيق بين الشركات والجامعات، والذي تدعمه صناعة رأس المال الاستثماري عميقة الجيوب. ليس من قبيل المصادفة أن يخرج ChatGPT من الولايات المتحدة، ومن وادي السيليكون الكبير على وجه الخصوص.
نجحت التكنولوجيات السابقة المخصصة لأغراض عامة في تعزيز الهيمنة الاقتصادية والجيوسياسية التي اكتسبتها الدولة الرائدة. كان المحرك البخاري الذي سـوقـه تجاريا ماثيو بولتون، وجيمس وات، رمزا لنصف القرن الذي انطلق فيه عندما ظهرت بريطانيا العظمى كأول دولة صناعية وعندما كان أسطولها البحري يحكم البحار. في الوقت ذاته، عندما كانت السلع المصنعة البريطانية وغيرها تغزو الأسواق، أصبحت صناعات الحرف اليدوية في دول، مثل الصين والهند، غير قادرة على المنافسة، ما تسبب في ركود، بل هبوط نصيب الفرد في الدخل هناك.
مع ذلك، قد لا يخلو الأمر من مبالغة في تقدير ميزة المحرك الأول. كان ألفريد تشاندلر، عميد المؤرخين التجاريين المعاصرين، هدفا للانتقادات في هذا الصدد. فقد خسرت بريطانيا بالفعل ريادتها لنصيب الفرد في الدخل لمصلحة الولايات المتحدة بحلول أواخر القرن الـ19. ونستشهد هنا بمثال أكثر حداثة، كانت شركة Netscape المحرك الأول لمتصفحات الإنترنت، لكنها لم تتمكن من الاحتفاظ بصدارتها المبكرة على المتصفح Internet Explorer الذي أصدرته شركة مايكروسوفت ومتصفحات غيرها من المنافسين.
الصين اليوم، مثلها مثل "مايكروسوفت" آنذاك، تتمتع بجيوب عميقة، فهي تنفق قدر ما تنفقه الولايات المتحدة تقريبا على البحث والتطوير. ولا يضطر قادتها السياسيون إلى التغلب على مقاومة الإنفاق العام الإضافي على البحث والتطوير في مجلس الشعب الصيني، بل يمكنهم ببساطة فرض إرادتهم. في الصين، لا يشكل ذلك النوع من المخاوف المرتبطة بالخصوصية التي تمنع تبني النماذج اللغوية الضخمة أي قيد
إذا تمت مقارنة وضع الخوف من الخصوصية هذا مع أوروبا. ففي وقت سابق من هذا العام، حظرت إيطاليا مؤقتا روبوت المحادثة ChatGPT بهدف تدريب النموذج على ملاحظات المستخدمين وكشف معلوماتهم للآخرين. في وقت لاحق، اقترحت المفوضية الأوروبية مجموعة من القواعد والضوابط التنظيمية التي تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي.
تسعى المفوضية إلى فرض شروط مسبقة صارمة على استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم، والرعاية الصحية، وإدارة شؤون الموظفين. بوسع المرء أن يتخيل أن مثل هذه القيود من شأنها أن تبطئ عملية تطوير وتبني هذه التكنولوجيا في أوروبا، مقارنة بموقف الغرب المتوحش في الولايات المتحدة والنهج الأقل مراعاة للخصوصية والأمن الشخصي في الصين.
من ناحية أخرى، قد يساعد التحديد الواضح لما هو مسموح به، وتحت أي ظروف وبأي شروط، على تمكين المطورين الأوروبيين من تنسيق جهودهم. ولأنهم سيتقدمون بموجب مجموعة موحدة من القواعد، فسيكون تقدمهم في الأرجح أكثر توافقا، ويجب أن يكونوا قادرين على البناء على جهود بعضهم بعضا.
لنتذكر هنا كيف تقدم تبني الهواتف الخلوية بسرعة أكبر في أوروبا مقارنة بالولايات المتحدة. فقد أصبحت شركة نوكيا رائدة السوق جزئيا لأن أوروبا طورت معيارا مشتركا للجيل الثاني من الاتصالات للشبكات الخلوية، في حين تبنت الولايات المتحدة مجموعة متنافرة محيرة من المعايير غير المتوافقة.
قد تبدو الدول النامية في وضع غير موات بدرجة كبيرة في سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي ومعرضة لخطر خسارة ميزتها التنافسية، العمالة الوفيرة منخفضة التكلفة. بيد أن الذكاء الاصطناعي يحمل أيضا الوعد بفوائد تعود على هذه الدول. تستخدم شركات مثل Apollo Agriculture التعلم الآلي الزراعي وصور الأقمار الاصطناعية لتوفير المشورة المخصصة لمزارعي الحيازات الصغيرة في كينيا. من الممكن أن يستخدم الذكاء الاصطناعي أيضا لتقليل المعوقات التكنولوجية والمالية التي تمنع التنمية الاقتصادية. على سبيل المثال، سيساعد استخدام الذكاء الاصطناعي لقياس مخاطر الائتمان في غياب فروع البنوك وموظفي القروض على تمكين تشغيل منصات الإقراض من نظير إلى نظير وتخفيف القيود المالية المفروضة على رواد الأعمال الناشئين.
لكن التنمية الاقتصادية تعتمد على التنمية البشرية قبل أي شيء آخر ـ أي على تراكم رأس المال البشري. حيثما تفتقر الدول النامية إلى الموارد، المالية وغيرها، لزيادة إنفاقها بشكل كبير على أنماط التعليم التقليدية، يحمل الذكاء الاصطناعي الأمل في توفير ما هو مفقود. فمن الممكن استخدامه لتصميم مساعدي التعلم المصممين للاستخدام الفردي والقادرين على توفير التعليم المخصص فرديا للطلاب في البيئات التي تعاني نقص المعلمين. وعندما يتعلق الأمر بالتنمية الاقتصادية، فإن القليل من المعرفة الإضافية بالقراءة والكتابة والحساب من الممكن أن يقطع شوطا طويلا.
طوال عصور التاريخ، كان التغيير التكنولوجي يصنع فائزين وخاسرين. ولا يوجد من الأسباب ما قد يمنع الذكاء الاصطناعي، مثله كمثل التكنولوجيات السابقة، من إنتاج عدد من الفائزين أكبر من الخاسرين.