عكس تاريخ البشرية عملية التقدم في العلم والتكنولوجيا وإحداث تغييرات وتحولات ثورية في المجتمع العالمي. و عد البعد العلمي والتكنولوجي من أهم الأبعاد الإستراتيجية الدولية .
وفي اطار من الجدل حول العلاقة بين التكنولوجيا والتاريخ بين تيارين احدهما يؤكد أن احتياجات التطور الإنساني هي التي تصنع التكنولوجيا، وأما الآخر فينادي بأن التطور التكنولوجي هو الذي يصنع التطور الإنساني ويحدد شكله وأبعاده وعلاقات القوى الفاعلة فيه، وجاءت عملية التطور في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات لتحسم الجدل بتصاعد دورها في إعادة تشكيل الحياة المعاصرة وفق أسس جديدة مع بزوغ عصر المعلومات والمعرفة وتأثيرهم في بروز مجال جديد في العلاقات الدولية وهو مجال الفضاء الإلكتروني الذي أصبح له تأثير في طبيعة التفاعلات وأنماطها ومجالها والمتغيرات التي تحركها للتأثير في السياسة الدولية، ونتج عن ذلك بالتبعية تغير في طبيعة الأدوات والقضايا والفاعلين وأنماط الاستجابات داخل المجتمع الدولي.
وبرزت ظاهرة الفضاء الإلكتروني كمجال جديد للعلاقات الدولية يشهد امتداد لنشاط الإنسان والدول والمجتمعات إليه والذي تتم ممارسته في المجالات الأخرى كالبر والبحر والجو والفضاء الخارجي، وأصبح هذا النشاط يتم على نحو سلمي وآخر يتم على نحو غير سلمي، وفي إطار بيئة دولية تشهد تآكل الحدود بين الداخل والخارج وانتقال حركة الأفكار والمعلومات والثروة دون إيلاء أي اعتبار لعامل المكان أو الزمان أو سيادة الدول بمفهومها التقليدي.
ولم يتوقف التأثير على الجانب التطبيقي الكمي فقط بل تم إفراز تغييرات كيفية وفكرية ونظرية تتعلق بفلسفة العلم وهو الأمر الذي أثر بدوره على جميع العلوم الإنسانية والطبيعية والتي أصبحت وثيقة الصلة بالتكنولوجيا، وليكشف في ذات الوقت عن وجود ظواهر علمية جديدة بحاجة لتفسيرها علميا وآليات مواجهة تحدياتها المختلفة أمام الأفراد والشعوب والدول.
وتصاعدت العلاقة بين التكنولوجيا وعلم السياسة وبخاصة فيما يتعلق بالعديد من الأسس والمبادئ التي قام عليها على مستوى الفكر والنظرية وفي تفسيراته لسلوك البشر أو الدول أو رؤية المجتمع الدولي، وأوجد بروز عدة مستويات من التغير العالمي في القوة وهيكلها واستخدامها وأدواتها نمطًا جديدًا من العلاقات غير الرسمية بين شعوب الدول مع زيادة كثافة نشاط الاتصالات الدولية.
وكان لتلك المتغيرات الجديدة دور حاسم في التأثير في حالة علم العلاقات الدولية في عصر المعلومات، والذي تميز بصفة التعقيد للظواهر والإشكاليات، وتضخم المادة العلمية وتسارع معدل إنتاجها، وبروز العلوم البينية ومجالات علمية جديدة، وعكست ثنائية المادي واللامادي، وعلاقة العلم بخارجه على أصعدة السياسة والاقتصاد والأخلاق.
وأصبحت العلاقة ذات طابع تبادلي بين العلم والتكنولوجيا بل قد تحرّك التكنولوجيا البحث العلمي؛ وهو ما فرض سياقًا جديدًا لتحليل العلاقات الدولية ليس فقط وفق المناهج التقليدية لتفسيرها بل من منظور التغير التكنولوجي الذي تداخل مع غيره من المتغيرات، وساهم ذلك في إنشاء مجالات بحث جديدة وأسرع من تبلور ما يعرف "Cyber Politics "، حيث المزج بين العلوم السياسية والتكنولوجيا بعد التأثير الذي أحدثته ثورة المعلومات والاتصال في نمط القيم وفي ظهور أنماط جديدة، وهو ما يطرح حالة من السجال حول علم السياسة في ظل حالة الانقسام المنهجي بين المنظورات الكبرى المفسرة للعلاقات الدولية، والتي كانت تتنافس فيما بينها لتقديم تفسير أفضل للواقع الدولي ولتبدو عاجزة الآن عن مواكبة الطابع المتغير للعلاقات الدولية، وتعرّضت بذلك لتحديات تنبع من مفهومها الضيق لمدلول العلم ومناهج وأساليب البحث العلمي؛ وهو ما فرض تحديًا كبيرًا أمام المنظرين الاجتماعين والسياسيين والاقتصاديين والمثقفين والساسة وصناع القرار وغيرهم إزاء كمّ الظواهر المستحدثة التي يطرحها مجتمع المعلومات, والتي تتجاوز قطعًا الفكر الاجتماعي الفلسفي التقليدي, ويعمل في نفس الوقت على دعم الجدل حول الحداثة وما بعدها للمساهمة في تحقق الأهداف الوطنية وحل المشكلات الدولية والعمل على تطوير العلاقات بين الدول وتساهم في تحقيق نتائج أفضل للاستقرار والسلام.
عكست ظاهرة الفضاء الإلكتروني سبق البعد الخاص بالتقدم التكنولوجي المادي على البعد المعنوي؛ وهو ما لم يحدث في التاريخ، حيث كان المفكرون يتنبؤون بالظاهرة ويحللونها ويضعون أطرًا لتفسيرها إلا أنه في الوقت الراهن أصبحت التطورات ووتيرتها المتسارعة تؤدي إلى التأثير في القدرة التفسيرية وعلى تشكيل معنى أو مفهوم من هذه التطورات المتلاحقة، ومن ثم فقد فرضت تكنولوجيا الاتصال والمعلومات تحديات وفرصًا كبيرة أمام العلاقات الدولية، فمن ناحية طرأت تغييرات على المستوى التطبيقي وخاصة ما يتعلق بطبيعة الفاعلين الدوليين ونطاق وأولوية الموضوعات، والعمليات الدولية، وفرض ذلك من ناحية أخرى تحديات على المستوى التنظيري للعلاقات الدولية بما أدى لإعادة النظر في أنساقها وأطرها الفكرية والمفاهيمية وذلك للتكيف مع التغيرات التي فرضتها ظاهرة الفضاء الإلكتروني على مستويات التحليل الثلاث التي يمكن من خلالها تحليل ظاهرة العلاقات الدولية، والتي تتضمن مستوى الأفراد ومستوى البناء السياسي الداخلي للدولة ومستوى النظام الدولي،
وعكست ظاهرة الفضاء الإلكتروني درجة من التداخل ما بين تلك المستويات لتجعل ما يمكن أن يطلق عليه بالمجتمع العالمي الذي يتعدد به الفاعلون وتتوحد به القضايا والاهتمامات. من خلال التأثير في الفرد وفي الدولة والمجتمع والعلاقة بينهم وبين الدولة وغيرها من الدول وبين المجتمع العالمي.
وتعد ظاهرة الفضاء الإلكتروني من أهم مؤسسات العولمة ومكوناتها والأكثر مسئولية عن إحداث التحول في إطار بروز الفضاء الإلكتروني كمجال جديد للعلاقات الدولية أو بحجم تأثيره عليها من الناحية التطبيقية أو من الناحية الأخرى النظرية من خلال فرض تحديات أمام علماء العلاقات الدولية للاقتراب من تحليل طبيعة المرحلة الراهنة من تطور العلاقات الدولية والتنظير لها، واعتبار ذلك من أهم التحولات العالمية المعاصرة.
وأثرت ظاهرة الفضاء الإلكتروني في الدول من خلال التأثير في المبدأ العسكري في نظم الحكم في العالم عبر تحدد مصادر التهديد وكيفية مواجهة ذلك عبر الأدوات الدبلوماسية والسياسية والعنف المسلح إذا لزم الأمر، ومن ناحية أخرى أثر الفضاء الإلكتروني في المفهوم السياسي للسياسة الخارجية، التي تحدد الأصدقاء والحلفاء، وتم ذلك من خلال فهم الدول والأمم الأخرى عبر أدوات التأثير والنفوذ والتبادل.
وبرز فاعلون جدد في العلاقات الدولية فيما يطلق عليهم CYBERACTORS أصبحوا يتحركون بعيدًا عن الأطر الرسمية والمؤسسات السياسية الدولية المعروفة ويمارسون نفوذهم وتأثيرهم دون المرور بجماعات الضغط التقليدية، وهو ما يظهر أن السياسية أصبحت تمارس في إطار بيئة إلكترونية جديدة.ودفع ذلك إلى ما سمي في العصر الراهن "بتحول المنظور Paradigm Shift"،
وذلك للحاجة لتعريفات جديدة للقضايا السياسية ومواجهه المشكلات الدولية التي ظهرت بفعل الثورة العلمية والتكنولوجية؛ وهو ما أدى بدوره لإعادة تعريف ما هو سياسي في إطار اتساع المجال العام الدولي Public Sphere، وهو ما عمل على تشكيل وإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية في العلوم السياسية وتحديًا للمعرفة التقليدية التي استقر عليها حقل العلاقات الدولية والذي شهد خلال العقدين الأخيرين تحولات في ضوء ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات لاسيما فيما يتعلق بدور الدولة ومفهوم السيادة، ومفهوم القوة والحرب والسلام والدبلوماسية وغيرها من المفاهيم التي كانت حجر الزاوية في نظريات العلاقات الدولية.
وأدى البعد التكنولوجي وما تمخض عنه من تفاعلات تعاونية وصراعية لبروز مفاهيم جديدة وإعادة النظر في أخرى قديمة، وهو ما يشكل إسهامًا في إعادة تعريف "من هو السياسي" و" ما هي السياسة " و"آليات التفاعل " وأنماط التفاعل " وإمكانية التأثير "و "طبيعة الأفعال وأشكالها "، و"مجال الفعل " داخل النظام الدولي وأصبحت ظاهرة الفضاء الإلكتروني من الظواهر الدولية الجديدة، سواء من حيث حجمها وشبكة العناصر المتداخلة فيها، أو بتأثر المجتمع الدولي بتطبيقاتها على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتقنية وغيرها.
وكان لظاهرة الفضاء الإلكتروني كـ"ظاهرة دولية"جديدة دورٌ في التأثير النظري والإمبريقي على نظرية العلاقات الدولية ومنظوراتها، وهو ما أثر بدوره على طبيعة المفاهيم المرتبطة بها أو بالبحث في التأثيرات التي تتركها على مستويات وفئات ووحدات وأدوات التحليل، ومسارات التفسير القائمة للظواهر المختلفة، وعلاقة الفضاء الإلكتروني بالتداخل بين التفاعلات الرسمية وغير الرسمية وبين الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وما بين مستويات التحليل الداخلية والإقليمية وعبر القومية والدولية والعالمية، مع تجاوز الفضاء الإلكتروني سيادة الدول على أراضيها وتجاوز معوقات المكان والزمان.
وخرجت قضية العلاقة بين الفضاء الإلكتروني والعلاقات الدولية من بعدها التكنولوجي لأبعاد أخرى سياسية وأمنية واقتصادية وقانونية وتحولت لدور وظيفي وحيوي سواء في التعبئة السياسية أو الاستحواذ على القوة وفي تشكيل السياسة الخارجية للدول والتأثير في الرأي العام العالمي، وإتاحة الفرصة لتشكيل التحالفات الدولية.
وأصبح الفضاء الإلكتروني محركًا ووسيطًا لنقل حركة التفاعل والسلوك الدولي وأنماطه الصراعية والتعاونية، سواء من جانب الدول أو من غير الدول، وساعد على إحداث تحولات في هيكل النظام الدولي وفي نمط إعادة ترتيب وتوزيع عناصر القوى في العلاقات الدولية والتحول في المنظومة القيمية للعلاقات الدولية. من خلال تحليل تأثير الفضاء الإلكتروني في دور القوى في النظام الدولي والمصالح والضوابط والدوافع التي تؤثر في حركة العلاقات الدولية.
وبذلك شهد علم العلاقات الدولية إشكاليات هي محور البحث في هذه الدراسة للسعي إلى اختبار مدى قدرة نظريات العلاقات الدولية في الموضوعات التي تتعلق بتناول الثورة العلمية والتكنولوجية وتعد بذلك مهمة نظرية، من اجل توضيح مقدار تلك الفجوة ومظاهرها على المستوى العملي، وذلك في محاولة لتنفيذ إطار نظري يعالج تلك العيوب التي تتسم بها النظريات الأخرى والثالث هو اختبار مدى صلاحيته وإمكانية تطبيقه في معالجة ثلاثة إشكاليات تدور حول Cyber International Relation أو درجات الاندماج بين الفضاء الإلكتروني والعلاقات الدولية وهي:
، أولا: حالة وجود فجوة نظرية بين نظرية العلاقات الدولية في القرن العشرين والحقائق الجديدة التي فرضها الفضاء الإلكتروني فيما يعرف بـ Cyber realities وذلك من خلال التأثير على الاتجاهات النظرية لدراسة العلاقات الدولية
وثانيا: إشكالية وجود فجوة تحليل إمبريقية: بين المعلومات الموجودة والقياسات المطلوبة لاتجاهات الأنشطة التي تدور عبر الفضاء الإلكتروني ومدى إمكانية خضوع تلك الأنشطة للتحليل الكمي، ومدى اعتبار الفضاء الإلكتروني وحدة تحليل واحدة يمكن أن تخضع للقياس والملاحظة أو ما يتعلق بوضع مؤشرات واضحة.
وأما الاشكالية الثالثة فتعلقت :بوجود فجوة تحليل سياسية بين الممارسة السياسية التقليدية والحاجة إلى أدوات تحليلية جديدة ومناهج بحثية متعددة، وفي ظل التغير الذي طرأ على أرض الواقع في المجتمع العالمي.
وانتقلت الدراسة لمعالجة تلك الاشكاليات من خلال التركيز على أثر الفضاء الإلكتروني على تغير طبيعة العلاقات الدولية كأحد الظواهر الدولية الجديدة التي تتعلق بأبعاد مهمة تعكس العلاقة بين التقدم التكنولوجي والمجتمع البشري، وما مثله ذلك من تحديات أمام تطور العلاقات الدولية، وهو ما يؤثر على دور الفضاء الإلكتروني في السلم والأمن الدوليين. وتتكون الدراسة من شقين أساسين هما البحث فيما أضحى عليه البعد التكنولوجي في العلاقات الدولية كحلقة مهمة من حلقات تطور نظريات العلاقات الدولية والتاريخ البشري ككل، وأما الشق الأخر فينتقل بنا من الأبعاد النظرية للظاهرة إلى الجانب التطبيقي والعملي لها. وهو ما يجعل دراسة ظاهرة الفضاء الإلكتروني وتأثيراتها المختلفة على العلاقات الدولية موضوعًا مهمًّا للبحث والتقصي والاستكشاف لعملية التنظير في العلاقات الدولية،
وجاء الفصل الأول تحت عنوان :ظاهرة الفضاء الإلكتروني.. وإشكاليات نظرية العلاقات الدولية ، ويتكون من من أربعة مباحث ، الأول ، الفضاء الإلكتروني :التعريف والتطور في المجال العام الدولي ،والمبحث الثاني:تصاعد العلاقة بين الفضاء الإلكتروني والسياسة في العلاقات الدولية،والمبحث الثالث:اثر الفضاء الالكتروني على اتجاهات التنظير في العلاقات الدولية،
والفصل الثاني بعنوان الفضاء الإلكتروني والتغير في البنية والهيكل والفاعل في النظام الدولي ، ويتكون من أربعة مباحث ،المبحث الأول: أثر الفضاء الإلكتروني في تغير بنية النظام الدولي ،والمبحث الثاني:أثر الفضاء الإلكتروني في تغير هيكل النظام الدولي،والمبحث الثالث أثر الفضاء الإلكتروني على دور الدولة في العلاقات الدولية،المبحث الرابع: الفضاء الإلكتروني وتصاعد دور الفاعلين من غير الدول في العلاقات الدولية.
الفصل الثالث ، الفضـــــاء الإلكتروني وتحوّل الأمن والقوة والصراع في العلاقات الدولية يتكون من المبحث الأول:الفضاء الإلكتروني وتحوّل الأمن والأزمة في العلاقات الدولية ،والمبحث الثاني :الفضاء الإلكتروني والتحول في طبيعة وأنماط الصراع الدولي،المبحث الثالث :الفضاء الإلكتروني وتحول القوة في العلاقات الدولية،والمبحث الرابع :الانتشار الشامل للأسلحة الإلكترونية :تحديات الاستخدام والسيطرة.
والفصل الرابع :الفضاء الالكتروني وتصاعد دور الأفكار والصور والرموز في العلاقات الدولية، المبحث الأول:الفضاء الالكتروني وأثره في دور الصور والرموز في العلاقات الدولية،والمبحث الثاني :الفضاء الالكتروني والسيطرة على العقول في العلاقات الدولية،والمبحث الثالث:الفضاء الالكتروني وتصاعد دور الدين في العلاقات الدولية،والمبحث الرابع :دور الفضاء الالكتروني في تحريك وتشكيل الرأي العام العالمي.والمبحث الخامس :دور الفضاء الالكتروني في التغيير في العالم العربي.
الفصل الخامس: الفضاء الالكتروني والتغير في أدوات وتحالفات السياسة الخارجية.ويتكون من المبحث الأول ، الفضاء الالكتروني والتغير في طبيعة السياسة الخارجية.،المبحث الثاني:الفضاء الإلكتروني والثورة في شئون أجهزة الاستخبارات الدولية،والمبحث الثالث :الدبلوماسية الالكترونية وأدوات جديدة في العلاقات الدولية،المبحث الرابع:دور التحالفات والجهود الدولية في تامين الفضاء الالكتروني.
للمزيد على منصة جوجل كتب